لا يقل اسم المخرجة كاملة أبو ذكري بريقًا عن أسماء بطلات وأبطال مسلسلات المواسم الرمضانية، فاسمها وحده عامل جذب جماهيري ومصدر ثقة في جودة العمل، ويأتي ذلك كنتيجة منطقية لما قدمته من أعمال درامية تعددت فيها المساحات الجمالية، سواء في القصة، أو السرد، أو الصورة، أو الإيقاع الدرامي.

لقد نجحت كاملة أبو ذكري في مسلسلات مثل؛ ذات، وسجن النساء، وواحة الغروب، وبـ100 وش، في أن تتنقل بين الدراما الاجتماعية والتراجيدية والرومانسية والكوميدية، من دون أن تفقد منتجاتها حيويتها وعمقها وإنسانيتها أو حتى تسقط في أفخاخ قلما ينجو منها صناع الدراما، وأبرزها النمطية والتنميط، فضلًا عن نجاحها في أن تضفي على أعمالها طابعًا نسويًا، عبر المعاني المبطنة والدلالات الرمزية، من دون رسائل مباشرة أو إفراط ميلودرامي.

في هذا الموسم تقدم كاملة أبو ذكري مسلسل «بطلوع الروح» الذي كتب قصته الكاتب محمد هشام عبية، وتتصدر بطولته منة شلبي، وإلى جانبها أحمد السعدني وأحمد حاتم وإلهام شاهين، وتدور أحداثه حول روح (تؤدي دورها منة شلبي) التي ينضم زوجها خفية إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (د.ا.ع.ش)، ويقوم باختطافها وابنهما الوحيد أثناء زيارتهم لتركيـا، التي اتخذها بوابة للعبور إلى مدينة الرقة السورية حيث تتمركز عناصر التنظيم، لتنقلب حياة روح رأسًا على عقب، بعد أن وجدت نفسها بين ليلة وضحاها زوجةً لأحد مقاتلي د.ا.ع.ش، وسجينةً داخل عالم مترعٍ بالوحشية، تحمل روحًا ينهكها الهم ويعذبها الخوف يوميًا.

يعمد المسلسل إلى استكشاف الحياة داخل معسكرات الدولة الإسلامية في العراق والشام (د.ا.ع.ش)، ورغم أن هذا الخط فرض نفسه بشكل ملحوظ على الدراما العربية خلال السنوات الأخيرة، فإن أهم ما يميز «بطلوع الروح» هو أن سرديته ليست السردية التقليدية المكررة التي تنحي النساء جانبًا وتهمشهنّ عن الصراع الرئيس أو تسطّح شخصياتهن، فالمسلسل يقدم هذا العالم من منظور مغاير، لا يرى النساء فقط في ضلع «الضحايا» داخل مثلث الصراع، بل يراهن أيضًا في ضلع «المنقذين»، وضلع «المستبدين»، ولكل امرأة في ضلع من الأضلاع الثلاثة مبرر وهدف.

المشاركة النسائية الأكبر في أدوار الصناعة الرئيسة بين مسلسلات الموسم

يسجّل مسلسل «بطلوع الروح» الحضور النسائي الأوسع في مواقع صناعة العمل الرئيسة خلف الشاشة، وهي سمة العديد من أعمال المخرجة كاملة أبو ذكري في السينما كـــ«واحد صفر» و«يوم للستات»، ومثل «ذات» و«سجن النساء» في التلفزيون.

العديد من العناصر النسائية التي ترافق كاملة أبو ذكري في هذا العمل، كانت قد شاركتها في صناعة أعمال سابقة، مثل مديرة التصوير نانسي عبد الفتاح، التي تعد مديرة التصوير الوحيدة في موسم رمضان للعام 2022، كما يحظى «بطلوع الروح» بحضور المونتيرة منى ربيع مشرفةً على أعمال المونتاج في المسلسل، التي سبق أن تعاونت مع كاملة أبو ذكري في فيلم «واحد صفر» ومسلسل «ذات»، فضلًا عن الفيلم القصير «خلقة ربنا» الذي صدر ضمن عشرة أفلام قصيرة داخل فيلم واحد يحمل اسم «18 يوم» تدور أحداثه حول الأيام الأولى لثورة الخامس والعشرين من يناير. أما تصميم الملابس فقد نهضت به ريم العدل التي اجتمعت مع كاملة أبو ذكري قبل ذلك، في مسلسلي «سجن النساء» و«واحة الغروب».

بالتوازي مع ذلك، تحتل الشخصيات النسائية مساحةً عريضة على الشاشة، فالمسلسل يتتبع الحياة اليومية لروح ومن يحيطن بها من نساء، سواء المضطرات للبقاء داخل المدينة الواقعة تحت احتلال تنظيم د.ا.ع.ش أو المتبنيات لعقيدته والمتّبعات لنهجه. إضافة إلى ذلك، تتمحور العديد من أحاديث الرجال في المشاهد الذكورية الخالصة حول النساء، لا سيما تلك التي تجمع أكرم (يؤدي دوره محمد حاتم) وعمر (يؤدي دوره أحمد السعدني)، فكثير من حواراتهما سويًا تدور حول روح أو على الأقل تتضمن إشارة إليها.

دولة الخلافة وسيـلة غايتها انكسار الــ«روح»

للوهلة الأولى، يبدو أن تحريك الأحداث على يد عمر، مستغلًا حالة التشوش والتخبط لدى أكرم، خاصةً بعد وفاة والدته، هو عملية من عمليات غسل الأدمغة التي تقوم بها عناصر تنظيم د.ا.ع.ش لتوسيع قاعدتها على الأرض، ولكن سرعان ما يتبين أن مسألة تجنيد أكرم وإقناعه بالانتقال إلى الرقة للانضمام إلى جبهة الجهاد المسلح، هي في الأصل حيلة من عمر للإتيان بروح التي لم يحب سواها منذ أن تزاملا في الجامعة لتكون إلى جواره، بعد أن وجد في إقناع أكرم بخطف روح وابنهما سيف، فرصة ليكون بالقرب من المرأة التي تخطف نظره كلما وقعت عليها عيناه، ويختلس لحظات في ظلام الليل ليتأمل صورها، وقد عقد النفس على أن يستغل هذه الفرصة للتخلص من أكرم، عن طريق توريطه في عملية قتالية يعلم أن احتمالية العودة منها ضئيلة للغاية، ومن ثم يستطيع تحقيق مراده بالزواج من روح ارتضت بذلك أو لم ترتضي.

رغبة أكرم في أن يكون موجودًا ومرئيًا وأن يجد معنى لحياته، هي الثغرة التي استطاع عمر أن ينفذ من خلالها إلى عقله ويسقطه في شباك التنظيم، مشحونًا بحقد دفين تجاه هذا الشخص الذي أحبته واختارته روح زوجًا، وهو الحقد الذي تنامى داخل عمر بعد أن صار عنصرًا رئيسًا داخل تنظيم د.ا.ع.ش، يرى مثل بقية من يرفعون لواءه، أن النساء جوائز مستحقة للمجاهدين الذين يصدقون في تفوقهم على بقية الرجال، ويعتقدون أنهم أرجح حقًا في تملك من يريدون من النساء والفتيات، فهو الذي يهمس في أذن أكرم بمجرد وصوله إلى الرقة، ليثير الشعور بالحسرة داخله إزاء تأخر مجيئه إلى «أرض الخلافة»، قائلًا «ولو كنت جيت من سنتين وشوية كده، كنت نولت حظك من السبايا الإيزيديات، كلهن جميلات وصغيرات في السن.»

خدعونا فقالوا: النساء على هامش المشهد الداعشي

بالفعل روح هي التي ركضت لتلحق بالسيارة التي أخذتها إلى أرض الجحيم، لكنها فعلت ذلك مدفوعة بخوف من فقدان صغيرها بعد أن خطفه والده بإيعاز من عمر، وهي ليست حالةً فريدة في هذا العالم، فهناك العديد من النساء والفتيات اللاتي دفعهن ارتباطهن الشديد بأشخاص بعينهم إلى الإلقاء بأنفسهن في غياهب الظلام، مثل لينا (تؤدي دورها هاجر السراج) التي أحبت عمر وفرت من أسرتها في سن صغيرة حتى تتزوجه، وإيفيلين عازفة الساكسفون البولندية التي استغل حبيبها تعلقها الشديد به ليضعها أمام خيار وحيد، بعد أن تحول من عازف موسيقي إلى عضو بالتنظيم الإرهابي، وهو الانتقال معه إلى سوريا وإلا تباعدا للأبد.

ولأن هذا العالم لا مناص منه حتى إذا رحل من كانوا سببًا في دخوله، تجد إيفيلين نفسها بعد موت زوجها في إحدى العمليات الانتحارية، سجينة داخل بيت لإيواء أرامل المقاتلين الداعشيين، في انتظار أن يتزوجها رجل آخر من رجال التنظيم تحت راية «جهاد النكاح»، وهو المصير الذي واجهته روح بعد أن ظن الجميع أن أكرم قد لقي حتفه في العملية التي أشركه عمر فيها.

جهاد النكاح هو استغلال واستعباد جنسي للنساء، ومع ذلك فإن أحرص الناس على تنفيذه هن نساء ذلك التنظيم، فأم جهاد أو منال (تؤدي دورها إلهام شاهين) تعتقد أنه لا يقل رفعةً عن الجهاد بالسلاح، ولذلك تستخدم  – عن قناعة – القوة والعنف ضد كل من ترفض ممارسته، وتتوعد بمعاقبة أي واحدة تمتنع عنه.

أم جهاد التي تقود كتيبة لواء الخنساء، وحدة الشرطة النسائية التي شكلها تنظيم د.ا.ع.ش في العام 2014 لتنفيذ أحكامه على النساء والفتيات في عاصمة الدولة الإسلامية، هي واحدة من هؤلاء اللائي هربن من بلدانهن وانضممن إلى صفوف التنظيم، بمحض إرادتهن لتصديقهنّ الكامل في أفكاره وأهدافه، فصرن عناصر فاعلة في التخطيط والتجنيد والتدريب على حمل السلاح.

تنضح شخصية أم جهاد وحشيةً وقبحًا، منذ ظهورها الأول وهي تنفذ حكم الجلد بحق إحدى النساء اللاتي حاولن الهروب من الرقة، ويزداد النفور منها مع كل عنف مادي ومعنوي ترتكبه بحق من يتطلعنّ إلى الخلاص من هذا الكابوس، إلا أنها في الوقت ذاته ليست النموذج الذي يتوافق مع القاعدة التي يبذل التنظيم قصارى جهده من أجل ترسيخها، وهي المرأة المنقادة والتابعة للرجل وبالأخص زوجها، فأم جهاد ليست تابعة لزوجها قائد جيش دولة الخلافة في الرقة بل هي شريكة له؛ وليست امرأة تردد كلام زوجها إرضاءً له، ولا تتبنى أفكاره خنوعًا، ولا ترتكب ما ترتكبه من جرائم مكرهةً، وإنما تفعل كل ذلك بثقة وثبات واقتناع، وحتى بعد مقتل زوجها لا تجد غضاضة في أن تعرض على عمر الزواج منه من دون أن تلجأ إلى وسيط.

وفي حوار بينها وبين روح في الحلقة السابعة، تكشف قائدة كتيبة الخنساء عن قناعتها التامة بأن المجاهدات في «دولة الخلافة» لسن أقل شأنًا من نظرائهنّ الذكور، مشددةً على دورهن الجوهري في بقاء هذه الدولة قائمة، واصفةً إياهن بالدرع الذي سيحميها.

ومثلما يوجد في هذا المكان المقبض نساء مختطفات أو نساء ارتضين دخوله لسبب ما ولم يعد بوسعهن الخروج منه بعد ذلك، ونساء أخريات يمارسن طواعية العنف والقتل، هناك فئة من النساء كسرن حاجز الخوف، وقررن أن ينقذن المجموعة الأولى، مثل هيلدا (تؤدي دورها ديامان بو عبود) وسيلين (تؤدي دورها ريم نصر الدين)، ودافعهما هو تحرير النفس، سواء كان تحريرًا بالمعنى الفعلي أو تحريرًا مجازيًا من خطأ أو ذنب يجثم على أنفاسهما.

حتى في الليالي الموحشة.. قادرات على انتزاع البهجة

يكتنز مسلسل «بطلوع الروح» بتفاصيل مرئية دقيقة تجعل المتابعات والمتابعين يعايشون ما تعايشه روح التي تتمزق روحها يومًا بعد الآخر داخل المعسكر الداعشي، عبر كادرات متتابعة يملؤها الحطام والركام، وعبارات مفزعة مكتوبة على الحوائط والبنايات، وشارات سوداء مطبوع عليها شعار د.ع.اش، بالإضافة إلى أصوات القصف التي تتلاحق في الخلفية.

ولعل أكثر الكادرات تعبيـرًا عن مكنون هذا العمل الدرامي، هي اللقطة التي تظهر في الحلقة الثالثة، وترصد أحد شوارع الرقة كما لو كانت زاوية التصوير من وراء النقاب الذي ترتديه روح، ليتوحد المشاهدات والمشاهدين مع هذه المرأة التي تستكشف الرقة أو بالأحرى سجن الرقة المحبوسة خلف قضبانه، بما يمثل إرهاصة تدلل على أن هذا العالم ستُحكى حكايته من منظور امرأة محتجزة داخله.

وسط الكآبة يكون من الصعب رؤية الجمال، ولكن أم سعود الكوافيرة (تؤدي دورها دارينا الجندي) لها قول آخر، فقد عزمت على أن تنتشل روحها وجسدها من براثن الأسى قبل أن يقتلها، وأن تنقذ معها أخريات قبل أن تذبل أرواحهنّ، عن طريق إعادة التآلف بينهن وبين أجسادهن المتدثرة بأكوام من الأقمشة السوداء، ومساعدتهنّ على استرجاع الإحساس بالجمال – ولو كان ذلك مؤقتًا – معتمدةً على مستحضرات التجميل، وأدوات تصفيف الشعر، وعجينة السكر الممزوجة بعصير الليمون.

في المشهد الذي يجمع أم سعود بروح ولينا داخل منزلها، نرى ثلاثتهن ينتزعن بسمات وضحكات من فكي اليأس، في تجسيد لواحدة من أبرز علامات بصمة كاملة أبو ذكري النسوية في الدراما، حيث تخلق النساء من فضاء مكاني ما، ساحة للتضامن بينهن في مواجهة القهر وتحرير أجسادهن وأرواحهن المكبلة، سواء كان ذلك الفضاء غرفة مغلقة، أو حمام سباحة أو عنبرًا للسجينات.