تشارك الممثلة نيللي كريم في موسم الدراما الرمضانية الحالي، بمسلسل «فاتن أمل حربي»، الذي كتب له القصة والسيناريو والحوار الكاتب الصحافي إبراهيم عيسى، ويخرجه محمد العدل، ومن إنتاج جمال العدل (شركة العدل جروب). وتدور أحداثه حول زوجة تتعرض للعنف المنزلي على يد الزوج لنحو عشر سنوات، وبعد محاولات عدة تنجح في الحصول على الطلاق الذي ظنت أنه سيكون طوق النجاة، لتكتشف تباعًا أن قانون الأحوال الشخصية القائم يمد يد العون إلى زوجها السابق، ليستمر في تعنيفها وإيذاء طفلتيهما نفسيًا، فتقرر أن تطعن في دستورية قانون الأحوال الشخصية، لتتحول قضيتها إلى قضية رأي عام.

حقق المسلسل منذ بدء عرضه جماهيرية واسعة داخل مصر وخارجها في العديد من الدول العربية، وأثار كثيرًا من الجدل حول القضايا التي تطرق إليها، كما انقسمت الآراء حول جودته الفنية خاصة في ظل الرسم أحادي البعد للعديد من الشخصيات، واتسام الحوار في كثير من الأوقات بالخطابية، وإثقال المشاهد بمعلومات مباشرة.

وبين الإعجاب والامتعاض، استطاع المسلسل خلال حلقاته العشر الأولى أن يحصد تفاعلًا قويًا مع القضايا التي طرحها، ومنها العنف المنزلي الذي تتعرض له النساء في ظل غياب قانون يحميهن منه، وحقوق المرأة المطلقة المادية، وولاية الأم على أطفالها، وطول أمد التقاضي أمام محاكم الأسرة، بالإضافة إلى تعسف بعض الفنادق مع النساء إذا أردن الإقامة بها من دون مرافقة أحد ذكور الأسرة لهن.

عمل يناقش قضيـــة نسوية.. والنساء غائبات عن صناعته

على الرغم من أن الشخصيتين الرئيستين في العمل هما فاتن (نيللي كريم) وزوجها سيف الذي يؤدي دوره شريف سلامة، فإن المساحة على الشاشة تتسع للشخصيات النسائية أكثر من الشخصيات الذكورية، لا سيما شخصية فاتن وطفلتيها نادين ويارا، ومديرتها ميسون التي تؤدي دورها هالة صدقي.

لكن هذا الحضور القوي في النص وعلى الشاشة يقابله غياب واسع خلفها، بالأخص عن الأدوار الرئيسة في صناعة العمل، فكما أوضحنا يشغل الرجال مواقع الكتابة والإخراج والإنتاج، ويتولى محمد يوسف إدارة التصوير، ويضطلع بهندسة الديكور أمير عبد العاطي، ويشرف على هندسة الصوت زياد عزت، وقد ألف الموسيقى التصويرية للمسلسل خالد الكمار. أما المونتاج فهو وحده من بين الأدوار الرئيسة الذي تنفذه امرأة وهي المونتيرة رانيا المنتصر بالله.

«فاتن أمل حربي» ليس حالة فريدة بين مسلسلات الموسم الحالي، فيما يتعلق بضعف المشاركة النسائية في أدوار الصناعة الرئيسة وسيطرة الرجال عليها، فالأمر سمة عامة في صناعة الدراما عمومًا وتلك المُعدة للعرض خلال المواسم الرمضانية خصوصًا، وكثافة المشاركة النسائية في المواقع الرئيسة في صناعة العمل هي خروج عن السائد، وقد عهدناه في عدد ضئيل من المسلسلات خلال السنوات العشر الماضية، كان أبرزها هو «سجن النساء» الذي عرض في موسم رمضان للعام 2014، وأخرجته كاملة أبو ذكري، عن نص مسرحي لفتحية العسال، وكتب له السيناريو والحوار مريم نعوم وهالة الزغندي، وتولت إدارة تصويره المصورة نانسي عبد الفتاح، وأشرفت على هندسة ديكوراته شيرين فرغل.

في «فاتن أمل حربي» تتبدى في الغياب مشكلة إضافية، فصناعة أعمال تتناول قضايا نسوية بأقلام وأيادٍ ذكورية، حتى إذا كانت النوايا حسنة، قلما يحقق نتائج إيجابية من المنظور النسوي، لأن هذه الأعمال عادةً ما تستند إلى معالجة درامية أبوية، تعترف ببعض الحقوق للنساء، وليس كل النساء بالطبع، وإنما هؤلاء اللاتي ينتمين إلى نمط معين ويلتزمن بإطار سلوكي محدد، وغالبًا ما تقدم هذه الأعمال الرجل المٌعنّف بوصفه استثناءً وسط نماذج مختلفة على الصعيد الفكري والسلوكي، وكلها أمور لم ينجُ منها «فاتن أمل حربي».

دراما تفتح جراح «الأحوال الشخصية» الغائرة

ربط كثير من المتابعات والمتابعين بين مسلسل «فاتن أمل حربي» وفيلم «أريد حلًا» الذي تصدرت بطولته فاتن حمامة وأخرجه هنري بركات عن قصة للكاتبة حسن شاه، وعرض بدور العرض السينمائي في العام 1975، والسبب في ذلك هو تناول العملين لقانون الأحوال الشخصية المصري، ومعاناة النساء من جراء فلسفته التشريعية الظالمة لهن والمنحازة للرجال، إلا أنه بمرور الحلقات يتضح أن المسلسل يتعاطى مع مروحة من القضايا الإشكالية على المستوى القانوني والمجتمعي والفقهي لم يطرحها الفيلم.

لقد سلّط صناع العمل الضوء  – خلال الحلقات العشر الأولى – على مجموعة من الإشكاليات البارزة في قانون الأحوال الشخصية، مثل حرمان الأم من الولاية التعليمية على أبنائها، وإسقاط حضانة الأم لأطفالها في حالة زواجها ثانيةً، وقضية تمكين الحاضنة من مسكن الزوجية، وفقدان المرأة لحقها في نفقة المتعة عند الطلاق إذا كانت هي من طلب الطلاق أيًا كانت دوافع طلبها، وحتى إذا كان العنف البدني من بينها. كما تعرض المسلسل إلى انتهاك صريح تمارسه العديد من الفنادق في مصر، وبالتحديد الفنادق التى تحمل تصنيفًا أقل من أربع نجوم، وهو حظر استقبال وإقامة النساء فيها إذا لم يكن برفقتهن أحد من ذكور الأسرة وتحديدًا الزوج أو الأب، وهو تعسف لا تشرعنه قوانين ولا قرارات حكومية حسب ما أكدت عليه وزارة السياحة أكثر من مرة.

إضافة إلى ذلك، اقتحم المسلسل فضاءً حساسًا، وهو الفقه الإسلامي، وأزمة التفسيرات الفقهية الذكورية التي صودرت بموجبها حقوق بالجملة للنساء، وهو المنحى الذي من المتوقع أن يتوغل فيه المسلسل خلال الحلقات المقبلة.

قصة ثريـة بشخصيات نمطية مستهلكة

الشخصية الرئيسة التي اختار لها الكاتب اسمًا رمزيًا وهو «فاتن أمل حربي»، كدلالة على على سماتها كامرأة تفتتن من حولها بصلابتها ومقاومتها المستمرة رغم ما تواجهه من مشاكل وأزمات، وكامرأة يتجسد فيها أمل كثيرٍ من النساء في تغيير واقعهن، وكمحاربة ضد الظلم وبالأخص الظلم التشريعي.

تتشابه حكاية فاتن مع حكايات ملايين النساء المصريات؛ فهي شابة أرادت الزواج بحثًا عن حياة أسرية تقليدية، وحفاظًا على الشكل الظاهري لهذه الأسرة ارتضت التعايش مع عنف زوجها لسنوات، وحين قررت الانفصال عنه اضطرت إلى خوض معارك فُرِضَت عليها، إلا أن أبرز ما يميز شخصية فاتن هو أنها ليست الضحية النمطية التي كرست لها الدراما المصرية طويلًا،  فهي ليست شخصية خاضعة أو عاجزة، بل شخصية عنيدة تقاوم في كل وقت، حتى لو كانت مقاومتها ببعض الصرخات الاحتجاجية المتفرقة ضد بطش الزوج، أو أشياء منزلية تقذفها باتجاهه لتحمي نفسها من صفعاته وركلاته.

لكن فاتن التي تعكس نموذجًا واقعيًا لشريحة واسعة من النساء، بفضل الرسم المقنع لشخصيتها، هي الوحيدة تقريبًا بين الشخصيات النسائية في المسلسل، التي جاءت على هذا النحو، إذ أن أغلب هذه الشخصيات لا تتعدى كونها مستمعًا ومشجعًا لفاتن أو مثبطًا ومحبطًا لها، من دون أن تتبين أبعاد أي منها، سواء صديقاتها، أو رفيقاتها في مركز استضافة المعنفات، أو رجاء التي تؤدي دورها مقدمة البرامج بثينة كامل، أو الأمهات في مركز الشباب الذي تتلقى فيه ابنتاها التدريبات الرياضية، أو والدة سيف التي تتواجد في الجبهة المضادة.

وقوع التركيز الأكبر على فاتن وقضية الأحوال الشخصية لا يمكن أن يكون موضع تبرير لأحادية معظم الشخصيات، فالشخصيات الدرامية محوريةً كانت أو ثانوية، وظيفتها أن تقود إلى تنامي الصراع وتصاعد الأحداث، وليس أن تكون شاهدًا ومتفرجًا على ما يجري، يصفق ويهلل أحيانًا ويهتف ساخطًا وغاضبًا في أوقات أخرى، أو يلقي بعض المعلومات العامة في وجه المشاهدات والمشاهدين من حين لآخر.

الرسم أحادي البعد للشخصيات يجعل منها شخصيات نمطية، مثل شخصية نظيمة والدة سيف، التي تؤدي دورها فادية عبد الغني، وتتجسد فيها صورة نمطية للحماة المتسلطة التي أفسدت ابنها وأفسدت حياته، بالإفراط في تدليله، والتبرير المستمر لأخطائه، وإطالة اعتماده عليها ماديًا ومعنويًا، بما جعله شخصًا أنانيًا ومحبًا للتملك، لتصبح أزمة سيف المُعنّف في كونه «ابن أمه» الذي تتهكم عليه زوجته/طليقته واصفةً إياه بـ«عين أمه»، وينعته أعمامه بـ«ابن نظيمة» سبًا له، في سياق يعيد إنتاج القول الذكوري النمطي «المرأة عدوة المرأة»، ويقدم المعتدي باعتباره ضحية ما جنته أمه عليه وقد جنى على غيره، على عكس القول المأثور (هذا ما جناه أبي علي وما جنيت على أحد).

كما يقدم المسلسل شخصية سيف كنموذج نادر الوجود بين حفنة من الرجال الداعمين لفاتن أو المفتونين بها، حتى إذا كانوا متصالحين مع بقاء الحال على ما هو عليه، والتعايش مع القانون على وضعه، بدءًا من الطبيب البيطري شفيع ويؤدي دوره محمد التاجي، والمستشار داوود، القاضي بمحكمة الأسرة الذي يؤدي دوره خالد سرحان، والمحامي شكيب الإسكندراني ويؤدي دوره محمد ثروت، والشيخ يحيي الذي يؤدي دوره محمد الشرنوبي، والأستاذ سلامة المعلم الذي يعمل بمدرسة ابنتيها، وصديق سيف الذي لا يظهر في مشهد إلا ناصحًا له باحترام طليقته و«أم بناته»، فضلًا عن أعمامه الذين يرفضون إيذائه لطليقته وبناته (من منطلق ذكوري يرى الأم والفتيات ضِعافًا يحتجن إلى الرعاية ويستحقنّ الشفقة)، ليصبح بذلك سيف، وابن عمه الذي يؤيد أفعاله، وشيخ أو شيخان فقط هم الشخصيات المرئية التي تقف على ضفة المعنفين ومؤيدي ومباركي العنف ضد المرأة في المطلق وضد فاتن بالتحديد.

السقوط في هوة الخطابية والدعائية

ثمة مشكلة واضحة في مسلسل «فاتن أمل حربي» وهي الخطابية المباشرة التي تكسو العمل، بما يبطل من مصداقية كثير من الحوارات التي تدور بين الشخصيات، ويجعلها أقرب إلى الأحاديث الوعظية أو الدروس التوجيهية الإرشادية، فهناك أرقام عن نسب الطلاق في مصر تذكر على ألسنة الشخصيات، وشكاوى من ذكورية قانون العمل وتمييز أرباب الأعمال ضد النساء تقال في هيئة معلومات صريحة، وحكايات عن عنف الزوج تروى على ألسنة المعنفات فيما أشبه بمسرح المايكروفون المفتوح (Open Mic).

أمر آخر يسترعي الانتباه وهو الدعاية التي يقوم بها المسلسل لبعض المؤسسات من خلال عرض صورة وردية وغير حقيقية لبعض خدماتها، إذ تلجأ فاتن إلى أحد مراكز استضافة المرأة المعنفة التابعة لوزارة التضامن الاجتماعي، بحثًا عن الحماية من تهديدات طليقها وإيذائه المستمر لها، ورغم أنه من المفيد أن تلعب الدراما دورًا في تعريف النساء المعنفات في مصر بتوفر هذه الخدمة لهن، فقد تحولت هذه التفصيلة إلى إعلان مجاني يعكس صورة غير واقعية عن هذه المراكز.

بحسب ما عرضه العمل، فإن إجراءات الإقامة بمراكز استضافة المرأة المعنفة تتسم باليسر الشديد، وهذا يجافي الحقيقة على أرض الواقع، فالناجيات من العنف الراغبات في الإقامة بأحد هذه المراكز يجب أن يستوفين مجموعة من الشروط، ويتحدد ذلك عقب عرضهن على لجنة محلية، كما يتعين عليهن أن يقدمن حزمة من الأوراق التي تثبت أحقيتهن في الإقامة، ومن بينها صحيفة الحالة الجنائية وشهادة مفردات مرتب للمرأة العاملة.

مجمل القول، نحن أمام عمل ينتمي إلى الدراما الاجتماعية الإصلاحية، ولا يمكننا وصفه بأنه دراما ذات نزعة نسوية، إلا أن تأثيره الشعبي وما يثيره يوميًا من جدل حول قضيته الرئيسة وموضوعاته الفرعية، يعطي مزيدًا من الزخم للانتفاضة النسوية التي انطلقت قبل عام من الآن ضد قانون الأحوال الشخصية المصري تحت شعار #الولاية_حقي.