كان المؤتمر العالمي الرابع للمرأة، الذي أقامته الأمم المتحدة في العاصمة الصينية بيجين في العام 1995، هو الساحة التي شهدت الاعتماد الرسمي لمنهج «تعميم المنظور الجندري» باعتباره وسيلة فعّالة لتحقيق المساواة بين الجنسين، إذ أوصت منصة العمل في المؤتمر بتعزيز القدرة على إعداد إحصاءات النوع الاجتماعي وتعميم مراعاة المنظور الجندري في صياغة السياسات وتنفيذها ومتابعتها، بما يعطي فهمًا أوضح لمساهمة المرأة في التنمية الوطنية.

في ذلك الوقت، لم تكن آليات تنفيذ هذا النهج واضحة، خاصة أنه منذ أن طُرِح «تعميم المنظور الجندري» لأول مرة في المؤتمر العالمي الثالث للمرأة الذي عقدته هيئة الأمم المتحدة في العاصمة الكينية نيروبي في العام 1985، لم يرافقه تعريف ومعايير محددة. ولكن في العام 1997، خرج المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، بتعريف لمصطلح «تعميم المنظور الجندري»، في تقريره الصادر في سبتمبر من ذلك العام والخاص بتعميم المنظور المراعي للنوع الاجتماعي في جميع سياسات وبرامج الأمم المتحدة.

وقد نص التعريف على أن تعميم المنظور الجندري أو المنظور المراعي للنوع الاجتماعي هو «عملية تقييم الآثار المترتبة على النساء والرجال نتيجة أي إجراء أو عمل مخطط له، بما فيه التشريعات والسياسات والبرامج  في جميع المجالات وعلى مختلف المستويات، وهو أيضًا استراتيجية هدفها الرئيس هو تحقيق المساواة الجندرية، من خلال جعل اهتمامات وخبرات المرأة والرجل بعدًا أساسيًا في تصميم وتنفيذ ورصد وتقييم السياسات والبرامج في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى يستفيد النساء والرجال على قدم المساواة ولا تستمر اللا مساواة.»

ومن أجل فهم أعمق لمنهج تعميم المنظور الجندري، لا بد من التعرف إلى الركن الرئيس فيه وهو المنظور الجندري أو المنظور المراعي للنوع الاجتماعي.

ويمكن تعريف «المنظور» بأنه زاوية محددة من بين زوايا متعددة لرؤية شيء أو حدث ما، وبحسـب كل زاوية تختلف ظروف الرؤية وتتباين ملامح المنظور إليه، بينما يُعرّف «النوع الاجتماعي أو الجندر» بأنه الخصائص المركّبة اجتماعيًا للرجل وللمرأة، بما يشمل الأدوار والسلوكيات المرتبطة بكلا الجنسين، والعلاقات بين بعضهما البعض، وبحكم أن «النوع» هو تركيب اجتماعي وثقافي، فإن التصوّرات المرتبطة به تختلف من مجتمع إلى آخر وتتغير عبر الزمن (تُعرّيف منظمة الصحة العالمية).

في ضوء ذلك، يمكن تعريف المنظور الجندري أو المنظور المراعي للنوع الاجتماعي بأنه النظر إلى فرص الأفراد وتفاعلاتهم وتقدمهم أو تأخرهم في مختلف المجالات وعلى جميع الأصعدة،  من زاوية تكشف تأثير النوع الاجتماعي.

من جانبه يُعرّف المعهد الأوروبي للمساواة بين الجنسين، المنظور الجندري بأنه المنظور الذي يأخذ في الاعتبار الفوارق الجندرية عند النظر إلى أي سياسة أو عملية أو ظاهرة اجتماعية.

وتشير الفوارق الجندرية إلى المكانة المُعطاة لجنس على حساب الآخر، والأدوار الاجتماعية والقوالب النمطية الجندرية، وهي الأمور التي ترتبط ارتباطًا مباشرًا باللا مساواة الجندرية المتغلغلة داخل المجتمعات، والتي تعد شكلًا من أشكال العنف البنيوي ضد النساء الذي ينطوي على ترسيخ تبعية المرأة للرجل وجعلها في مكانة أدنى.

ما يميز الاعتماد على المنظور الجندري في تحليل القضايا والسياسات والتشريعات، هو أنه لا يتجاهل مواطن التمييز القائم على النوع الاجتماعي أو يطبعها، بل يضعها في صميم الرؤية والتحليل، بما يصب في صالح الهدف الأكبر وهو التخلص من اللا مساواة الجندرية وتمكين النساء من كامل الفرص المتوفرة للرجال.

كيف يمكن تعميم المنظور الجندري داخل المؤسسات؟

تشمل عملية تعميم المنظور الجندري داخل أي مؤسسة أو برنامج أو سياسة أو لائحة أو أي عمل وضعت له خطة، عدة مراحل تبدأ بالتحليل من منظور النوع الاجتماعي أو المنظور الجندري، الذي يعني الطريقة المنهجية لقراءة التبعات والتداعيات المختلفة لأي عمل على النساء والرجال، من خلال فصل البيانات المرتبطة به حسب الجنس، وفهم طبيعة علاقات النوع الاجتماعي أو علاقات القوة غير المتكافئة بين المرأة والرجل. وتهدف عملية التحليل من منظور النوع الاجتماعي إلى تحديد وتوثيق المعوقات والممارسات التي تحوّل دون تحقق العدالة الجندرية.

يأتي بعد التحليل التقييم، إذ ينبغي تقييم التحديات والمخاطر الداخلية والخارجية التي تعوق الوصول إلى العدالة الجندرية، وتقييم احتياجات النساء والرجال على حد سواء وليس تعميم احتياجات الرجل، بالإضافة إلى دراسة سبل تلبية هذه الاحتياجات وتوفير الموارد اللازمة لها. وبناءً على ذلك، ييسر التحليل والتقييم معًا عملية وضع استراتيجية واضحة المعالم تستوعب الفروقات بين العاملين وتلبي احتياجاتهم جميعًا.

وكان المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة قد وضع مجموعة من المبادئ لتعميم المنظور الجندري في منظومة الأمم المتحدة، يأتي من بينها؛ بذل كل جهد ممكن لتوسيع نطاق مشاركة المرأة في جميع مستويات عملية صناعة القرار، وإجراء التحليل الجندري دائمًا إما بشكل منفصل وإما كجزء من التحليلات القائمة، وإيجاد الإرادة السياسية الواضحة وتخصيص الموارد البشرية والموارد المالية الكافية  – والإضافية إذا لزم الأمر – لتعميم مراعاة المنظور الجندري من جميع مصادر التمويل المتاحة، لأهمية ذلك في ترجمة المفهوم إلى ممارسة.

وجهة نظر أخرى

رغم أن الحديث عن ضرورة تعميم المنظور الجندري آخذ في الإزدياد، خاصة خلال العقد الأخير، فإنه يظل من وجهة نظر العديد من الناشطات والناشطين ليس الحل الأفضل للقضاء على اللا مساواة الجندرية، وإنما تعميم المنظور النسوي التقاطعي هو الحل، وذلك نتيجة وجود اختلاف جوهري بين الاثنين، فعلى الرغم من أن كليهما يرى عدم التكافؤ والتمييز، فإن المنظور الجندري وفقًا لمنتقديه لا يرى – على عكس المنظور النسوي التقاطعي –  التراتبية الهرمية في العلاقات، ولا يُسلّم بحقيقة أن الرجل الغيري يعتلي وحده رأس الهرم المجتمعي، فضلًا عن أنه يتغافل عن التشابك بين أنظمة التمييز والهيمنة المتعددة وتقاطعها مع الهويات المختلفة كالنوع، والعرق، والطبقة، واللون، والدين، والعمر، وغيره.