اعتمدت مصر وعدّلت خلال العقد الماضي، عددًا من التشريعات الوطنية التي تهدف إلى التصدي لجرائم العنف ضد المرأة، وعلى رأسها جريمة التحرش الجنسي التي تسجل انتشارًا واسعًا في البلاد (وفقًا لدراسة أجرتها منظمة الأمم المتحدة للمرأة في العام 2013، تتعرض 99.3 في المئة من النساء لصورة من صور التحرش الجنسي)، فقد أُدخِلت تعديلات على القانون المصري في العام 2014 بغرض التصدي لها، ثم أجرى البرلمان المصري تعديلات أخرى في العام 2021 لتشديد العقوبات.

لكن هذه الخطوات الإيجابية تظل ذات تأثير محدود لأسباب عديدة، يأتي في مقدمتها شيوع الثغرات القانونية التي تمثل عائقًا حقيقيًا أمام تحقيق العدالة للناجيات، وحجر عثرة في طريق تحجيم العنف ضد النساء، فضلًا عن تأخر التحركات الشريعية فيما يتعلق بمكافحة جرائم العنف الجنسي عن المقاومة النسائية لهذا النوع من العنف وعن الحراك المتنامي ضد جرائمه خاصة خلال العامين الأخيرين.

كما تؤثر سلبًا الممانعة المستمرة لاستحداث قانون موحد ومتكامل لمكافحة العنف ضد المرأة، لأن الإبقاء على توزيع المواد القانونية التي تتعامل مع جرائم العنف ضد النساء بشكل عام وجرائم العنف الجنسي بشكل خاص بين العديد من القوانين والأبواب والفصول، يجعل المتاح هو إجراء تعديلات جزئية محدودة فحسب، بينما تظل الإشكاليات البنيوية قائمة.

خلافًا لذلك، لا تزال العديد من المواد الخاصة بجرائم العنف الجنسي، مدرجة تحت باب في قانون العقوبات يحمل اسم «هتك العرض وإفساد الأخلاق»، بما يؤكد رسوخ القناعات الأبوية التي تتعامل مع جرائم العنف الجنسي بوصفها جرائم تعتدي على قيم المجتمع وتخل بمبادئه، وليس كجرائم اعتداء على النساء وانتهاك لكرامتهن، بغض النظر عما إذا كن يتوافقن مع الأعراف المجتمعية أو يعرضن عنها.

في ضوء هذه الإشكاليات، نلقي نظرةً موجزة على الواقع التشريعي فيما يخص العنف الجنسي:

التحرش الجنسي: إشكاليات مُتجاهلة

يشمل التحرش الجنسي، وفقًا لمؤسسة خريطة التحرش، أي صيغة من الكلمات غير مرغوب بها و/أو الأفعال ذات الطابع الجنسي، التي تنتهك جسد أو خصوصية أو مشاعر شخص ما وتجعله يشعر بعدم الارتياح، أو التهديد، أو عدم الأمان، أو الخوف، أو عدم الاحترام، أو الترويع، أو الإهانة، أو الإساءة، أو الترهيب، أو الانتهاك أو أنه مجرد جسد. ويمكن للتحرش الجنسي أن يأخذ أشكالًا مختلفة، وقد يتضمن شكلًا واحدًا أو أكثر في وقت واحد.

ويجرم قانون العقوبات المصري جريمة التحرش الجنسي، في مادتيه (306 مكرر أ) و(306 مكرر ب)، إذ تنص المادة (306 مكرر أ) على «يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين ولا تجاوز أربع سنوات وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على مائتي ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من تعرّض للغير في مكان عام أو خاص أو مطروق بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية سواء بالإشارة أو بالقول أو الفعل بأية وسيلة، بما في ذلك وسائل الاتصالات السلكية أو اللاسلكية أو الإلكترونية أو أي وسيلة تقنية أخرى، وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تجاوز خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن مائتي ألف جنيه ولا تزيد على ثلاثمائة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا تكرر الفعل من الجاني خلال الملاحقة والتتبع للمجني عليه، وفي حالة العود تُضاعف عقوبتا الحبس والغرامة في حديهما الأدنى والأقصى.»

بينما تنص المادة (306 مكرر ب) على «يعد تحرشًا جنسيًا إذا ارتكبت الجريمة المنصوص عليها فى المادة 306 مكرر أ من هذا القانون بقصد حصول الجاني من المجني عليه على منفعة ذات طبيعة جنسية ويعاقب الجانى بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن مائتي ألف جنيه ولا تزيد على ثلاثمائة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، ….»

هذه العقوبات هي تغليظ لعقوبات سابقة كانت تتعامل مع جريمة التحرش بوصفها جنحة، عقوبتها إما الحبس (مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات) وإما الغرامة التي تبلغ في حدها الأقصى 20 ألف جنيه.

ورغم اتساع رقعة الاحتفاء الذي قوبلت به العقوبات المُغلّظة التي وافق على إقرارها البرلمان المصري في شهر يوليو الماضي، عبّرت مجموعات نسوية عن قلقها إزاء ما سيسببه التغليظ من إطالة في مدة التقاضي، بما قد يصرف بعض الناجيات عن اللجوء إلى الإجراءات القانونية، كما أشارت بعض الكيانات النسوية إلى أن الأولى بالاهتمام هو تعزيز الإطار التشريعي فيما يتعلق بالتيسير على الناجيات الراغبات في التقدم ببلاغات ضد المعتدين، وحمايتهن من التهديد والعنف، والحفاظ على سرية بياناتهن وبيانات الشهود، وتأهيل المحققين وتدريبهم على التعامل المهني والحساس مع الناجيات.

الاغتصاب: صياغة تشريعية تستند إلى التوقعات الذكوريـة

تعرّف منظمة الصحة العالمية الاغتصاب بأنه نوع من الاعتداء الجنسي يشمل عادة الاتصال الجنسي أو غيره من أشكال الإيلاج التي تمارس ضد شخص دون موافقته. قد يتم تنفيذ الفعل عن طريق القوة الجسدية أو الإكراه أو إساءة استخدام السلطة أو أن يكون ضد شخص غير قادر على إعطاء موافقة صالحة، كفاقدي الوعي أو من هم تحت تأثير المخدر، أو الذين يعانون من إعاقة لا تمكنّهم من فهم الموقف.

يتصدى قانون العقوبات المصري لجريمة الاغتصاب في المادة (267)، التي استعاض المشرع في صياغتها عن لفظ «الاغتصاب» بعبارة «واقع أنثى بغير رضاها» التي لا تعكس بدقة الجريمة وتخفف من وطأة الفعل، فضلًا عن أنها تُقصِر الاغتصاب على الجرائم التي ترتكب بحق الأنثى على يد ذكر، وبالتالي تستبعد المادة جرائم الاغتصاب التي تقع بين طرفين من نفس الجنس.

تنص المادة (267) على «من واقع أنثى بغير رضاها يُعاقب بالإعدام أو السجن المؤبد ويُعاقب الفاعل بالإعدام إذا كانت المجني عليها لم يبلغ سنها ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة أو كان الفاعل من أصول المجني عليها أو من المتولين تربيتها أو ملاحظتها أو ممن لهم سلطة عليها أو كان خادمًا بالأجر عندها أو عند من تقدم ذكرهم، أو تعدد الفاعلون للجريمة.»

ورغم أن الحد الأدنى للعقوبة في هذه الجريمة هو السجن المؤبد، فإن الطريق إلى إثبات الجريمة تملؤه العقبات، إذ تتحمل الناجيات عبء الإثبات الذي يرتبط بشرطين، أولهما هو الإبلاغ الفوري أو الإبلاغ عقب وقوع الجريمة بفترة وجيزة، وثانيهما هو تقديم دليل يبرهن على الإجبـار على ممارسة الجنس بالقوة، الذي غالبًا ما يُختزَل في آثار وقوع عنف على الجسد، وهو ما يعكس تصوّرًا قاصرًا عن جرائم الاغتصاب.

فضلًا عن ذلك، لا يدرج القانون المصري الاغتصـاب الشرجي أو الاغتصاب بالأدوات والآلات الحادة أو الاغتصاب بالأصابع ضمن تعريفه للاغتصاب بل يختصره في الإيلاج المهبلي، إذ يعرّف قانون العقوبات المصري المواقعة الواردة في نص المادة (267) بعبارة «من واقع أنثى بغير رضاها»، بأنها الاتصال الجنسي الطبيعي التام بين الرجل والمرأة، فلا تعد أية أفعال غير ذلك (مثل: المساس بالعضو التناسلي للمرأة، أو وضع شيء آخر فيه، أو إزالة بكارتها بإصبعه) من قبيل المواقعة، بل تعد هتك عرض أو شروع في اغتصاب، حسب القصد الجنائي للمتهم.

علاوة على ذلك، لا يعترف القانون المصري بالصلة الوثيقة بين العنف ضد النساء في المجال الخاص والعنف الموجّه ضدهن في المجال العام، إذ لا يشمل بين نصوصه ما يجرم الاغتصاب الزوجي.

الاعتداء الجنسي: لا جريمة في القانون بهذا الاسم

وفقًا لمركز موارد العنف الجنسي الوطني الأمريكي (NSVRC)، يشمل الاعتداء الجنسي الكلمات والأفعال ذات الطابع الجنسي التي يقوم بها شخص ضد آخر من دون موافقته أو رغمًا عنه. وقد يستخدم المعتدي القوة أو التهديد أو التلاعب أو الإكراه لارتكاب جريمة العنف الجنسي.

لا يجرّم القانون المصري الاعتداء الجنسي صراحةً، وإنما يتضمن قانون العقوبات مادة تتعامل مع بعض الجرائم التي تندرج تحت تعريف الاعتداء الجنسي، وهي المادة (268) التي تنص على «كل من هتك عرض إنسان بالقوة أو بالتهديد أو شرع في ذلك يُعاقب بالسجن المشدد. وإذا كان عمر من وقعت عليه الجريمة المذكورة لم يبلغ ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة أو كان مرتكبها أو أحد مرتكبيها ممن نُص عليهم في الفقرة الثانية من المادة (267) تكون العقوبة السجن المشدد مدة لا تقل عن سبع سنوات، وإذا اجتمع هذان الظرفان معًا يُحكَم بالسجن المؤبد.»

ويعرّف القانون المصري هتك العرض بأنه اعتداء على الحرية الجنسية للمجني عليه شأنه شأن جريمة الاغتصاب إلا أنه يختلف عنها بالنظر إلى جسامة الفعل، فبينما لا تقع جريمة الاغتصاب إلا بالاتصال الجنسي الكامل فإن هتك العرض يقف عن حد الإخلال الجسيم بحياء المجني عليه في جانبه العرضي، ويتحقق في أغلب الأحوال عن طريق المساس بأحد عورات المجني عليه.

بموجب هذا التعريف، تتحول بعض جرائم الاغتصاب إلى جرائم هتك عرض، لعدم توفر شرط إيلاج العضو الذكري في المهبل بالقوة، ومن هذه الجرائم: الإيلاج عبر المهبل بواسطة أي عضو آخر في الجسم غير العضو الذكري، أو الإيلاج عبر الشرج، أو الإيلاج باستخدام الآلات الحادة أو الأصابع.

من ناحية أخرى، يعكس استخدام مصطلح «هتك عرض» كمظلة لطيف واسع من جرائم العنف الجنسي، سيطرة الذهنية الأبوية على عملية سن القوانين، إذ يعكس الوصف رؤية تنظر إلى هذه الجرائم باعتبارها خرقًا للمنظومة الأخلاقية التي تختزل العرض بمنطق ذكوري في «الجسد» لا سيما «جسد الأنثى»، استنادًا لموازين القوى في المجتمع.

في النهاية، يجلي هذا العرض أن الفكر الذي تأسست عليه التشريعات التي تعالج قضية العنف الجنسي هو فكر أبوي بامتياز، يقلص من فرص الناجيات في الحصول على حقوقهن، ويحرم النساء من الحماية الكاملة.