عشر سنوات على اتفاقية إسطنبول.. ما الذي ينبغي أن نعرفه عن أول اتفاقية تتصدى للعنف المنزلي؟
مرت عشر سنوات على فتح باب التوقيع على اتفاقية مجلس أوروبا للوقاية من العنف ضد النساء والعنف المنزلي ومكافحتهما، المعروفة باسم «اتفاقية إسطنبول»، التي تعتبر بناءً على ما تحتويه من بنود شاملة وصريحة، أقوى صك قانوني دولي فيما يخص منع ومكافحة العنف ضد المرأة لا سيما العنف المنزلي.
على مدى السنوات العشر الماضية، وقعت أكثر من أربعين دولة على الاتفاقية، وتواجه دول أخرى حملات ضغط نسوية من أجل الانضمام إليها، لما للاتفاقيات الدولية من تبعات وانعكاسات على التشريعات الداخلية والسياسات الوطنية، تحتاجها شتى البلدان لإصلاح أوضاعها خاصةً إذا كان الأمر يتعلق بالعنف ضد المرأة الذي يطال ملايين النساء حول العالم، إذ تفيد منظمة الصحة العالمية بأن امرأة واحدة من كل ثلاث نساء تتعرض خلال حياتها للعنف البدني أو الجنسي.
وكانت منظمة العفو الدولية قد سلطت الضوء، في بيان سابق لها (صدر في 7 مايو 2021)، على تأثير اتفاقية إسطنبول على قوانين بعض البلدان التي صادقت عليها، إذ أشارت إلى أن أيسلندا والسويد واليونان وكرواتيا ومالطا والدنمارك قد أصلحت قوانينها في السنوات القليلة الماضية لضمان تعريف الاغتصاب على أنه ممارسة الجنس بدون تراضي، كما تقتضي الاتفاقية.
مرور عشر سنوات على صدور اتفاقية إسطنبول هو فرصة متعددة الأوجه، فهو فرصة للاحتفال بالنسبة للبعض، وفرصة لتكثيف الضغط من وجهة نظر البعض الآخر، وفرصة أيضًا للتأمل والتعمق في ما تحمله الاتفاقية بين طياتها كما هو الحال بالنسبة لنا، وهو الأمر الذي نعوّل عليه كي يساعدنا في فهم ما يمكن أن يغيره الانضمام إلى اتفاقية إسطنبول في واقع النساء والفتيات.
ما هي اتفاقية إسطنبول؟
الاسم الرسمي لاتفاقية إسطنبول هو «اتفاقية مجلس أوروبا للوقاية من العنف ضد النساء والعنف المنزلي ومكافحتهما»، ولكن نظرًا لطول الاسم صار من الشائع تسميتها باتفاقية إسطنبول، في إشارة إلى المدينة التي شهدت الإعلان الرسمي عن الاتفاقية وفتح باب التوقيع عليها في الـ11 من مايو في العام 2011.
بدأ الإعداد للاتفاقية في العام 2008، عندما أنشأ مجلس أوروبا المكوّن من 47 دولة، لجنة خبراء تضم وزراء العدل في الدول الأعضاء، مهمتها إعداد مشروع اتفاقية تضع معايير واضحة لمنع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف المنزلي.
شاركت العديد من المنظمات والهيئات الدولية في اجتماعات اللجنة التي استمرت لمدة عامين، إلى أن صدر مشروع الاتفاقية في ديسمبر من العام 2010، ثم اعتمدت اللجنة الاتفاقية في إبريل من العام 2011.
ما هو الهدف الرئيس للاتفاقية؟
ترمي الاتفاقية، التي دخلت حيز النفاذ في العام 2014، إلى حماية النساء من مختلف أشكال العنف، ومنع جميع أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي والعنف المنزلي والقضاء عليهما، بالإضافة إلى القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة وتعزيز المساواة الجندرية.
من هي أول دولة صادقت على الاتفاقية؟
صارت تركيا أول دولة تصادق على الاتفاقية في شهر مارس من العام 2012، والمفارقة أن تركيا أيضًا هي أول دولة تنسحب من الاتفاقية في العام 2021، حيث أصدر الرئيس التركي، في شهر مارس الماضي، مرسومًا يلغي مصادقة تركيا على اتفاقية إسطنبول، وأعلنت الحكومة التركية وقتئذٍ أن قرار الانسحاب جاء بعد أن تلاعبت بالاتفاقية بعض الشرائح التي تسعى إلى تطبيع المثلية الجنسية التي لا تنسجم مع القيم الاجتماعية والعائلية في تركيا.
أدى القرار إلى اندلاع احتجاجات نسوية في العديد من المدن التركية للتأكيد على تمسك النساء بالمصادقة على الاتفاقية، إلا أن الحكومة لم تنصت لأصوات النساء ومطالبهن وازدادت تعنتًا، فانتهى الأمر بالانسحاب الرسمي من الاتفاقية في الأول من يوليو الماضي.
فضلًا عن تركيا، هل انسحبت دول أخرى من الاتفاقية؟
أعلنت الحكومة البولندية، في صيف العام 2020، عزمها الانسحاب من الاتفاقية، بزعم أنها لا تحترم الدين المسيحي وتروج لأيديولوجيات مثيرة للجدل.
أرسلت الحكومة لاحقًا مشروع قانون يختص بمسألة الانسحاب إلى البرلمان، وقد صوّت الأخير في شهر إبريل الماضي لصالح إرسال المشروع إلى إحدى اللجان الفرعية للمراجعة والفحص، ولكن قرار اللجنة النهائي لم يصدر حتى الآن.
كم هو عدد الدول التي صادقت على الاتفاقية؟
وقعت 45 دولة على الاتفاقية، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي بصفته، وصادقت عليها 34 دولة، جميعها أعضاء بالمجلس الأوروبي.
بعد انسحاب تركيا رسميًا من الاتفاقية في يوليو الماضي، أصبح إجمالي عدد الدول الموقعة 44 دولة.
هل يحق للدول الأفريقية أو العربية الانضمام إلى الاتفاقية؟
تنص الاتفاقية على أحقية الدول غير الأعضاء بمجلس أوروبا في الانضمام إليها، وقد انطلقت في بعض الدول حملات ضغط نسوية تهدف إلى دفع الحكومات لطلب الانضمام الرسمي إلى الاتفاقية.
تونس واحدة من هذه الدول، وقد انطلقت فيها قبل خمس سنوات حملة تهدف إلى التعبئة والحشد من أجل التأثير على صناع القرار وحثهم على التقدم بطلب للانضمام إلى الاتفاقية، وهو ما نجحت الحملة في الوصول إليه. في إبريل من العام 2020، استجابت لجنة وزراء مجلس أوروبا لطلب تونس بدعوتها للانضمام إلى اتفاقية إسطنبول. لكن إجراءات الانضمام للاتفاقية المُحالة إلى مجلس النواب التونسي، تعطّلت بعد تجميد عمله في شهر يوليو الماضي.
ما هو إطار الاتفاقية؟
تتكون الاتفاقية من 81 مادة موزعة على 12 فصلًا، وترتكز على أربعة أسس هي: المنع، والحماية، والملاحقة القضائية للمعتدين، وتناسق وتكامل السياسات.
كيف تُعرّف الاتفاقية العنف المنزلي؟
تُعرّف الاتفاقية في مادتها الثالثة العنف المنزلي بأنه «كافة أعمال العنف الجسدي أو الجنسي أو النفسي أو الاقتصادي التي تقع ضمن الأسرة أو في المنزل أو بين الزوجين أو العشيرين السابقين أو الحاليين، بصرف النظر عن كون الجاني يقيم مع الضحية أو كان يقيم معها.»
ما هي أبرز المواد الواردة في الاتفاقية؟
تُلزم المادة 14 الدول الأطراف بتصميم مناهج تعليمية مراعية للنوع الاجتماعي، إذ تنص على أن «تتحذ الأطراف حيثما كان ذلك مناسبًا، الخطوات الضرورية لإدراج مواد تعليمية في البرامج الدراسية الرسمية وعلى كافة مستويات التعليم، تكون متكيفة مع قدرة المتعلمين على التطوّر، وتتناول مواضيع كالمساواة بين المرأة والرجل، والأدوار غير النمطية للجنسين، والاحترام المتبادل، وتسوية النزاعات في العلاقات بين الأشخاص بشكل غير عنيف، والعنف ضد المرأة القائم على النوع، والحق في السلامة الشخصية.»
وتشتبك المادة 16 مع إصلاح وتأهيل مرتكبي جرائم العنف المنزلي بما يضمن منع تكرر العنف، إذ تنص في فقرتها الأولى على أن «تتخذ الأطراف التدابير التشريعية، أو غيرها من التدابير الضرورية، لإنشاء أو دعم برامج هادفة إلى تلقين مرتكبي أعمال العنف المنزلي كيفية التزام تصرف غير عنيف في العلاقات بين الأشخاص، في إطار الوقاية من ارتكاب أعمال عنف جديدة وتغيير الأنماط السلوكية العنيفة.»
كما تتناول المادة 18 في فقرتها الثانية، حماية الناجيات من تكرر العنف بحقهن من زاوية أخرى، فتنص على أن «تتخذ الأطراف التدابير التشريعية، أو غيرها من التدابير الضرورية، وفقًا لقوانينها الداخلية، لضمان وجود آليات مناسبة لإقامة التعاون الفعلي بين جميع هيئات الدولة المعنية، بما فيها السلطات القضائية والمدعون العامون والمصالح الزجرية، والسلطات المحلية والجهوية، والمنظمات غير الحكومية والمنظمات أو الكيانات الأخرى المعنية بحماية ضحايا كافة أشكال العنف المشمولة بنطاق تطبيق هذه الاتفاقية وشهودها ودعمهم.»
وتشير أيضًا هذه المادة إلى ضرورة اتخاذ تدابير من شأنها تأمين الاستقلالية الاقتصادية للناجيات، ووجوب عدم ربط خدمات دعم الناجيات فقط برغبتهن في تحريك الدعاوى القضائية.
أما المادة 23 من الاتفاقية، فتختص بمسألة توفيـر مراكز استضافة الناجيات لتحقيق الحماية والأمن لهن، ووفقًا لنصها يجب على الدول الأطراف اتخاذ «التدابير التشريعية، أو غيرها من التدابير الضرورية، للسماح بتهيئة ملاجئ مناسبة وسهلة الولوج وبعدد كاف، لتوفير مساكن آمنة للضحايا خاصة للنساء وأطفالهنّ، وللوصول إليهم بشكل استباقي.»
وتلزم المادة 24 الدول الأطراف بـ«إنشاء خطوط هاتفية مجانية على الصعيد الوطني، تكون في المتناول ليلًا نهارًا وطوال أيام الأسبوع، لتقديم إرشادات إلى الأشخاص المتصلين حول كافة أشكال العنف المشمولة بنطاق تطبيق الاتفاقية، مع احترام سريتهم.»
مسألة حماية الشهود في جرائم العنف القائم على النوع الاجتماعي تتناولها المادة 27 التي تنص على أن تتخذ الدول الأطراف التدابير الضرورية لـ«تشجيع كل شخص شاهد على ارتكاب عمل عنف مشمول بنطاق تطبيق الاتفاقية، أو لديه ما يدعوه جديًا إلى الاعتقاد بأن عملًا كهذا قد يُرتكَب، أو لأنه يخشى تكرار أعمال عنف مماثلة، على إبلاغ المنظمات أو السلطات المختصة عنها.»
وفيما يخص إشكالية الزواج القسري، تنص المادة 32 على أن تتخذ الدول الأطراف التدابير التشريعية والضرورية «لجعل الزيجات المعقودة بالإكراه قابلة للإبطال أو الإلغاء أو الحل دون تحميل الضحية عبئًا ماليًا أو إداريًا إضافيًا»، وتنص المادة 37 على وجوب تجريم الزواج بالإكراه.
ولأول مرة تتعرض اتفاقية دولية صراحة إلى «الاغتصاب الزوجي» و«اغتصاب الشريك الحميم»، إذ تدرج المادة 36 الإكراه على ممارسة أفعال غير رضائية ذات طابع جنسي بين الأزواج أو العشران السابقين أو الحاليين ضمن تعريفها للاغتصاب كجريمة.
المادة ذاتها تعترف بالإيلاج الفموي أو الشرجي غير الرضائي بواسطة أي جزء من الجسم أو بواسطة أداة، كأشكال أخرى للاغتصاب إلى جانب الإيلاج المهبلي غير الرضائي.
من ناحية أخرى، تقف المادة 42 من الاتفاقية في مواجهة جرائم القتل بزعم الدفاع عن «الشرف»، إذ تُلزم المادة الدول الأطراف باتخاذ التدابير الضرورية «لمنع اعتبار الثقافة أو العرف أو الدين أو التقاليد أو الشرف مبررًا لارتكاب أعمال العنف.»
بالإضافة إلى ذلك، تعترف الاتفاقية في المادة 60 بحق النساء والفتيات اللاتي يعانين من العنف القائم على النوع الاجتماعي، في اللجوء إلى دولة أخرى سعيًا إلى الحماية، إذا أخفقت دولتهن في منع العنف أو توفير الحماية الكافية لهن، إذ تنص الفقرة الأولى منها على أن تتخذ الأطراف التدابير التشريعية أو غيرها من التدابير الضرورية، لضمان الاعتراف بالعنف ضد المرأة القائم على النوع، باعتباره شكلًا من أشكال الاضطهاد بالمعنى الوارد في المادة الأولى من اتفاقية 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين.
وما الذي يميز هذه الاتفاقية؟
أهم ما يميز اتفاقية إسطنبول هو أنها تعترف بأن العنف المنزلي لم يعد من الممكن التعامل معه باعتباره شأناً خاصًا أو أسريًا، فضلًا عن أنها تضع التزامات ومسؤوليات على عاتق الدول، بعضها لم يسبق لأي اتفاقية دولية طرحه، بهدف القضاء على العنف ضد النساء.
ويعني التوقيع على هذه الاتفاقية أن الحكومات صارت ملزمةٌ بتعديل تشريعاتها واتخاذ تدابير ملموسة من أجل تحقيق ثلاث غايات أساسية هي: منع العنف ضد النساء ومكافحته، وحماية الناجيات منه، ومعاقبة المعتدين.