ما الذي وجدناه عندما شاهدنا الإعلانات التلفزيونية عبر عدسـة حساسة للنوع الاجتماعي؟
لا تزال الإعلانات تقدم النساء بشكل «ثانوي»، وغالبية العلامات التجارية تتحدث إلى النساء من منظور «ذكوري»، تقول لهن من هن وتخبرهن بما ينبغي أن يكن عليه. هذا ما توّصلت إليه الكاتبتان جين كونينغهام وفيليبا روبرتس، وناقشتاه باستفاضة في كتابهما «شرح العلامات التجارية: لماذا (لا يزال) التسويق متحيزًا على أساس الجنس وكيف يمكن إصلاحه؟».
ما تطرحه جين وفيليبا في كتابهما الصادر في فبراير الماضي ليس طرحًا جديدًا، فقد سبق أن توّصل بعض الباحثين إلى أن الإعلانات التلفزيونية تقدم منذ الخمسينيات صورًا نمطية عن النساء، كما تعمّق العديد من الباحثين في دراسة وتحليل تبعات التعرض المكّثف والمشاهدة التراكمية للمنتجات التلفزيونية عمومًا والإعلانات خصوصًا بما تحمّله من أفكار نمطية، وأبرزهم الباحث جورج جربنر، صاحب نظرية الغرس الثقافي (Cultivation Effect)، الذي قال إن أحد أكثر الاستنتاجات شيوعًا في دراسات الإعلام والترسيخ الثقافي هو العلاقة الوثيقة بين زيادة مشاهدة التلفزيون والآراء النمطية، خاصة فيما يتعلق بالنوع الاجتماعي.
هذا الاستنتاج الذي اتفق بشأنه كثير من الباحثين، دفع بعدد من الدول، وآخرها بريطانيا والإمارات، إلى اتخاذ إجراءات تهدف إلى تقليص مساحة الصور النمطية المعروضة على الشاشة، لا سيما في الإعلانات التي يزداد انتشارها مع انضمام مواقع التواصل الاجتماعي إلى القنوات التلفزيونية كوسائط عرض لها. وعلى سبيل المثال، فقد أعلنت هيئة معايير الإعلان في بريطانيا (ASA) في العام 2019، حظر عرض الإعلانات التي ترسخ للقوالب النمطية المرتبطة بالجندر، سواء على شاشة التلفزيون أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وقد حددت الهيئة بوضوح عددًا من أنماط القصص والمواقف المحظور عرضها في الإعلانات، ومنها تصوير رجل (أب) يجلس في منزل وتحيط به الفوضى التي تسبب فيها الأطفال، بينما تظهر المرأة مسؤولة بمفردها عن تنظيف المكان وترتيبه، كما تمنع المعايير تصوير الرجل أو المرأة يفشلان في أداء مهمة بعينها بسبب جنسهما فقط، كأن يظهر الرجل لا يستطيع تغيير حفاضات الأطفال أو تظهر المرأة غير قادرة على ركن السيارة، وتحظر أيضًا المعايير الإعلانات التي تسخر أو تقلل من شأن الرجل إذا كان يقوم بمهام التصوّر الشائع عنها نمطيًا هو أنها مهام نسائية.
لكن ثمة إعلانات من هذا النوع لا تزال منتشرة في دول أخرى بشكل طبيعي وعادي، لا يحد من ذيوعها معايير أو قواعد، مثلما هو الحال في مصر، وهذا ما يمكننا استشعاره عند مشاهدة الإعلانات، وإن كان من الصعب إثباته باستنتاجات بحثية نتيجة ندرة الدراسات المختصة برصد وتحليل الإعلانات التلفزيونية المصرية، وغيابها التام خلال العامين الأخيرين.
دفعنا ذلك إلى التفكير في القيام بتجربة صغيرة بغرض استطلاع مجموعة من أحدث الإعلانات التلفزيونية وما تبطنه من رسائل وإشارات، فقررنا أن نشاهد عينة عشوائية من أحدث الإعلانات التي تبثها القنوات المصرية الخاصة والحكومية (خلال شهر أغسطس)، برفقة أربع نساء من خلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة، بعد أن ناقشنا معهن مفهوم النوع الاجتماعي وبعض أساسيات تحليل الصورة والمضمون المراعيين له، حتى يشاهدنه عبر عدسة تراعي النوع الاجتماعي، ومن ثم تخبرنا كل واحدة منهن عن الأمور التي توقفت أمامها.
تنوعت إعلانات العينة بين إعلانات عن منتجات تجميل وعناية شخصية، وإعلانات عن أطعمة ومشروبات، وإعلانات عن شبكات هواتف محمولة، وأخرى عن عقارات، بالإضافة إلى بعض إعلانات الخدمة العامة والتبرعات.
إعلانات الخدمة العامة لا ترى النسـاء
استوقف سلمى (36 عامًا) الإعلان التوعوي الذي يقدم معلومات عن اللقاح المضاد لفيروس كورونا بهدف تشجيع المواطنين على الحصول عليه، لأنه على حد وصفها خاضع بشكل تام للذكور صورةً وخطابًا، والسبب في ذلك من وجهة نظرها هو أن صنّاع الإعلان وضعوا بطولته في أيدي شخصيتين ذكوريتين، جسدهما الممثلان خالد الصاوي وأحمد فهمي، في ظل تغييب تام للنساء عن جميع الشخصيات الناطقة.
تنتقد سلمى الخطاب المستخدم في الإعلان لأنه يتوجه إلى الذكور فحسـب، رغم أن المراد منه هو تشجيع المواطنين من الجنسين على تلقي اللقاح، وتشير سلمى إلى بعض الجمل التي جاءت على لسان أحد البطلين محدثًا المشاهدات والمشاهدين، واستخدم فيها الضمائر والأفعال الذكورية مثل «دلوقتي تقدر تاخد اللقاح» و«اللقاح ده حماية ليك.»
تتساءل سلمى لماذا يصر صنّاع إعلانات الخدمة العامة وتغيير الأفكار والمواقف على استخدام خطاب في عمومه ذكوري، يرتكز على تذكير الضمائر والصفات والأفعال، رغم أن المٌخاطب في هذه الإعلانات المفترض أن يكون جميع المواطنات والمواطنين، لافتةً إلى أن المشكلة ذاتها ظهرت أيضًا في إعلان من إعلانات مبادرة فحص وعلاج الأمراض المزمنة، وهو الإعلان الموجه لمرضى ضغط الدم، إذ يخاطب المعلق المشاهدات والمشاهدين بصيغة المفرد المذكر قائلًا «لو عندَك ضغط الدم ألحق نفسَك»، ويتابع «وإحنا معاك موجودين في كل مكان، وزارة الصحة عملتلَك مبادرة لعلاج الأمراض المزمنة.»
محاولة للخروج من الإطار النمطي
أما أسماء (26 عامًا) فقد توقفت أمام إعلان لأحد منتجات العناية بالشعر، تظهر فيه الممثلة المصرية منى زكي والممثلة والمغنية السعودية أسيل عمران، لما رأته فيه من اختلاف عن غالبية إعلانات منتجات العناية بالشعر التي اعتادت على مشاهدتها، إذ تعتقد أسماء أن الإعلان يحاول أن يبرز شعار الشركة المنتجة «لأنني أستحقه» في قالب نسوي.
يظهر في بداية الإعلان كرسي «المخرجـ/ة» خاويًا في موقع التصوير، بينما تقبل عليه الممثلة منى زكي وتجلس عليه، ثم تتوجه إلى الكاميرا بحديثها قائلة «إحنا الستات لينا أدوار قيادية متعددة»، ثم تتقاسم البطلتان الحديث الموجه إلى المشاهدات والمشاهدين، الذي يرسل رسالة مفادها أن الشعر هو مصدر الثقة بالنفس للمرأة، وأن المنتج المُعلَن عنه هو الحل الأمثل للشعر، وأخيرًا ينتهي الإعلان بتوحد صوتي البطلتين وهما يرددان كلمات الشعار بصيغة الجمع «لأننا نستحقه».
لكن أسماء تنتقد تفصيلةً في الإعلان، تعتقد أنها أفسدت الصيغة النسوية التي أريد للإعلان أن يخرج بها، وتقول «رغم أن الإعلان يعد خروجًا عن النمط التقليدي لإعلانات منتجات العناية بالشعر التي تجعل منها الحل السحري للنساء اللاتي يسعين إلى جذب الرجال إليهن بشعر فائق النعومة، فإن المشكلة هي أن الإعلان يجعل مصدر الثقة بالنفس هو الشعر الأملس اللامع، فضلًا عن أنه يشير بوضوح إلى أن أحد المميزات الرئيسة للمنتج هي أنه «يتحكم في تجعد الشعر»، أي أن الثقة بالنفس يحققها الشعر الذي يتوافق مع معايير المجتمع لجمال الأنثى.»
تصدّق أسماء أن الإعلانات لا تروج فقط لمنتجات، وإنما توجه مشاهديها نحو ما يجب أن يكونوا عليه، وهذا ما يجعلها ترى أن الإعلان سقط في فخ تكريس معايير الجمال المقبولة مجتمعيًا، التي تعلي من شأن المرأة صاحبة الشعر الانسيابي وتنتقص من المرأة ذات الشعر المجعد، وهي المعايير التي تصفها بـ«شديدة العنصرية».
إعلانات منتجات الطهي: إفراط في النمطية
ترى رضوى (41 عامًا) أن التنميط لا يزال ركنًا أساسيًا في إعلانات منتجات الطهي، إذ أن غالبية الشخصيات الرئيسة في هذه الإعلانات لا تزال نسائية، كما تظن أن هناك ما هو أقرب إلى أن يكون نمطًا ثابتًا في إعلانات منتجات الطهي، حيث تقف النساء في المطبخ يعددن الطعام لأسرهن ويقدمنه لهم بابتسامة عريضة، بينما يرافقهن في الخلفية صوت معلقة أو معلق (أو أغنية في بعض الأحيان) موجه إلى «المرأة» فقط، بما يرسخ التصور النمطي عن دور المرأة في المنزل وتواجدها في ساحة المطبخ تحديدًا.
تقول رضوى إنها لاحظت خروجًا عن هذا النمط في إعلان شاهدته ضمن العينة، وهو إعلان عن مرقة دجاج، تظهر فيه شخصية ذكورية بين أربع شخصيات تطهو وتعد الطعام، كما يستخدم المعلق (وهو أحد الطهاة المعروفين) لغة حيادية وضمائر الجمع في أغلب الخطاب فيما عدا الجملة التي يختتم بها تعليقه إذ يتوجه بها إلى المرأة قائلًا «هتفضل (اسم المنتج) سر الطعم الحلو لأكلِك.»
وتردف رضوى قائلة «الإعلان به بعض الإيجابيات وهي تضمين شخصية ذكورية تقوم بمهام الطهى التي اعتاد صناع الإعلانات على ترسيخها كمهام نسائية، بالإضافة إلى توظيف لغة محايدة في أغلب مقاطع التعليق الصوتي، ولكن يظل الإعلان متحيزًا بدرجة ما إلى التصورات النمطية التي تربط بين الطهي والنساء لأنه لم يساو في العدد بين الشخصيات النسائية والذكورية، ولم يحافظ على الحيادية في الخطاب طوال الإعلان.»
تثبيت ركائز التفوق الذكوري
تبدي آيـة (24 عامًا) امتعاضها من كثرة المعلقين الذكور في الإعلانات، لافتةً إلى أنها تجد ذلك شكلًا من أشكال الـ«Mansplaining».
مصطلح «Mansplaining» هو مزيج من كلمتي «رجل – Man» و«شرح – Explaining»، ويشير إلى احتكار الرجال للحديث، وتعمدهم شرح أي أمر للنساء بطريقة استعلائية.
تقول آية «المشترك بين غالبية الإعلانات التي شاهدتها هو أنها تنطلق من أيديولوجيا تعيد إنتاج التفوق الذكوري، إذ نسمع أصوات الرجال تعرفنا إلى المنتج أو الخدمة، وتشرح لنا المزايا، وتنصحنا بأن لا نفوّت الفرصة أو تحذرنا في بعض الأحيان، بينما تنحسر الأصوات النسائية في عالم الإعلانات، متمركزة في ساحات نمطية.»