غالبًا ما يعتري الناجيات من العنف الجنسي شعور يٌعرف باسم «الذنب المرتبط بالصدمة»، وهو شعور ينتج عن تصوّر بأنه كان بالإمكان القيام بشيء مختلف قبل الاعتداء لمنع وقوعه أو أثناء حدوثه لإيقافه، وعادةً ما يتوّلد هذا الشعور بسبب نظرة المجتمع المؤنِبَة، وتعامله المزدري مع الناجيات، فضلًا عن غياب الدعم من الدوائر المقربة.

ويتمثل هذا الشعور في عبارات لوّامة توجهها الناجيات لأنفسهن مثل «كان يجب ألا أتواجد هناك في ذلك الوقت المتأخر»، و«كان علي أن أرتدي ملابس غير التي كنت أرتديها»، و«كان ينبغي أن أتوقع ذلك»، وكلما تعمّق هذا الشعور زاد تهاوي الثقة بالنفس وظهرت أعراض الرهاب الاجتماعي.

هذا النمط من الشعور بالذنب هو الأكثر شيوعًا بين الناجيات من العنف الجنسي، ولكن هناك نمط آخر من الشعور بالذنب يصيب بعض الناجيات، إما حيال نجاتهن في حد ذاتها نتيجة اعتقادهن أنها غير مستحقة،  وإما إزاء ما فعلنه في سبيل النجاة من الاعتداء أو تخفيف وطأته في حال كان مصحوبًا بإيذاء جسدي عنيف أو تهديد بالقتل. هذا النوع من الشعور بالذنب يشار إليه بــ«متلازمة الناجين» أو «ذنب الناجين/النجاة»، وفي بعض الأحيان يُعرف بـ«اضطراب النجاة».

ما هي متلازمة الناجين؟

يندرج ذنب الناجين (Survivor’s guilt) أو متلازمة الناجين (Survivor Syndrome) في قائمة أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، ويقصد به الشعور بالذنب الذي يصيب الناجيات والناجين من حوادث جسيمة أو تهديدات خطيرة أو صدمات قوية، وينتج هذا الشعور عن اعتقاد الناجيات والناجين بأنهم قد ارتكبوا خطأ ما بالنجاة من الحادثة، بينما لم يدرك أشخاص آخرون النجاة مثلهم، سواء كان هؤلاء الأشخاص جزءًا من الحادثة ذاتها أو تعرضوا لحادثة مشابهة في وقت مختلف.

ولا يرتبط ذنب الناجين أو اضطراب النجاة بالحوادث التي ينجو فيها أفراد من موت محقق فقط، بل إنه قد يصيب هؤلاء الذين نجوا من ضغط نفسي شديد أو مرض أو اعتداء جسماني، ومثلما يشعر الناجون من الحروب بهذه المشاعر، والناجون من جرائم الإرهاب، والناجون من الحوادث المميتة والكوارث الطبيعية، يشعر بها أيضًا الناجيات والناجون من العنف الجنسي، إما بسبب النجاة مما لم ينج منه آخرون وقعوا تحت وطأة الاعتداء نفسه في الوقت ذاته أو سابقًا، وإما بسبب ممارسات قمن بها وساهمت في الحفاظ على حيواتهن، إلا أنها ساعدت في تمرير الاعتداء، مثل الموافقة الاضطرارية أو ما شابه من ردود أفعال اتخذوها حتى يحموا أنفسهم من الإيذاء الجسدي أو القتل.

في أعقاب المحرقة أو الهولوكوست، جرى توثيق أولى حالات «اضطراب النجاة»، حينما بدأت تظهر علاماته على بعض الناجين منها، ولكن بعد عقود من الدراسة والبحث تبين لعلماء النفس أن ذنب الناجين أكثر ذيوعـًا مما كان متصوّرًا في البداية، فتم توسيع قائمة الصدمات التي قد يتبعها هذا الاضطراب، لتشمل لاحقًا الصدمات المرتبطة بالاعتداءات الجنسيـة.

لا أستحق النجــاة

يشعر الناجيات والناجون الذين تمكّن منهم اضطراب النجاة، بأن نجاتهم غير منطقية وكان يجب ألا تكون، ولذلك تحاصرهم تساؤلات حول الأسباب التي تجعل البعض فقط يدرك النجاة وليس جميع من يختبرون الآلم، وتساؤلات حول المبررات التي جعلتهم بالتحديد من الناجين، فضلًا عن جنوحهم إلى تحميل أنفسهم مسؤولية فشـل الآخرين في إدراك النجاة.

نِهال (28 عامـًا) اختبرت شعور الذنب تجاه النجاة، بعد أن علمت أن إحدى صديقاتها قد تعرضت للاعتداء الجنسي على يد الشخص الذي حاول أن يعتدي عليها قبل عامين، ولكنها نجحت وقئتذٍ في تخليص نفسها ومنع وقوع الاعتداء.

عندما علمت نِهال بأمر صديقتها، شعرت بأنها مسؤولة عن ما تعرضت له الأخيرة لأنها لم تخبرها ولم تحذرها من قبل، وهذا أيضـًا جعلها من وجهة نظرها لا تستحق النجاة التي أدركتها، لأنها لم تحم غيرها وظنت أن النجاة فردية وهي ليست كذلك، على حد تعبيرها.

كما شعرت نِهال بالذنب لأنها لم تختبر تجربة الاعتداء الجنسي بالقسوة التي اختبرتها وعايشتها صديقتها، فألقت باللوم على نفسها بعد أن صدقت أن تكتمها على ما حدث لها سابقًا، هو السبب فيما تعرضت له صديقتها وربما أخريات لا تعرفهن.

بعد شهور من التشوش وعدم القدرة على التعامل مع المشاعر المضطربة، لجأت نِهال إلى معالجة نفسية لتتجاوز الأزمة التي باتت تضيق الخناق عليها. وتقول نِهال إن ما أخمد هذا الشعور بدرجة كبيرة هو تحويـله إلى طاقة دعم ومساندة لفتيات أخريات، بغرض رفع الوعي بطرق الحماية من الاعتداء الجنسي المحتمل، وسبل التعامل مع المشاعر السلبية التي تتبع حوادث الاعتداء الجنسي.

لقد أخطأت بفعل ذلك حتى أنجو

اضطرت أسيل (36 عامـًا) للإذعان للمغتصب تحت وطأة الضرب المبرح وخوفًا من تنفيذ تهديده لها بالقتل خنقًا، وقد أدى ذلك إلى معاناتها لشهور طويلة بعد الحادث من الشعور بالذنب، الذي تحاول في الوقت الراهن تخطيه.

اعتقدت أسيل أنها أذنبت عندما اختارت عدم المقاومة لإنقاذ حياتها، وصارت تعيد على نفسها جملًا مثل «يا ليتني قاومت حتى قتلني وانتهت حياتي»، «من يفعل ما فعلت، شخص بغيض وأناني لا يستحق الحياة.»

تُرجع أسيل الشعور بالذنب الذي انتابها، إلى اعتقادها في تلك الآونة بأنها قد ورطت نفسها وأن أي شخص سيعرف بالأمر سيراها «قد اختارت أن تنجو بحياتها، فصارت شريكة في الجريمة.»

توقن أسيل بأن مسألة غياب الدعم المعنوي كانت سببًا أساسيًا في تنامي هذا الشعور بداخلها، فقد أسرت الأمر وأخفته حتى عن المقربين إليها خوفًا من الإساءة والإيذاء، وبذلك وجد شعور الذنب تجاه النجاة بيئة خصبة لينمو أكثر فأكثر، إلى أن قررت أسيل الخروج من هذه الحلقة المفرغة واللجوء إلى مختصة نفسية لتساعدها على التعامل مع هذا الشعور وتجاوزه.

الدعم هو كلمة الســر

ترجح دراسة صادرة عن المركز الوطني المتعاون للصحة العقلية في بريطانيا، بعنوان «اضطراب ما بعد الصدمة: إدارة اضطراب ما بعد الصدمة لدى البالغين والأطفال في الرعاية الأولية والثانوية»، أن العديد من الأشخاص الذين يعانون من ذنب الناجين والأعراض الأخرى لاضطراب ما بعد الصدمة يتعافون منها خلال السنة الأولى التي تلي الحادثة. ومع ذلك، فإن ثلث الأشخاص على الأقل تستمر لديهم هذه الأعراض لمدة ثلاث سنوات أو أكثر.

وفي هذا السياق، كشف علماء النفس أن شعور الذنب تجاه النجاة ينمو أو يسكن بناءً على الظروف المحيطة بمن يعاني منه، ومن بينها مدى توفر الدعم والمؤازرة سواء بشكل مباشر أو عبر شبكات افتراضية، بما يعين الناجيات والناجين ويمكّنهم من التعبير عن هواجسهم وطرح الأسئلة التي ترهقهم، ليستطيعوا من خلال التواصل مع الآخرين استعادة الثقة في أنفسهم وتحويل شحنة الأفكار السلبية إلى طاقة إيجابية يمكن استغلالها.

*تم تغيير أسماء الناجيات نزولًا عند رغبتهن