لعبة نيوتن.. عن ما يُحدِثه الخروج من وضع السكون في عالم ملبد بغيوم الذكورية
نجح مسلسل «لعبة نيوتن» منذ أن عُرِضت حلقته الأولى، في أن يصنع قاعدة جماهيرية عريضة بين مشاهدي الأعمال الدرامية المشاركة في موسم رمضان للعام 2021، واستطاع صنّاعه أن يخلقوا حالة من الجدل والجدال التي تتجدد بشكل شبه يومي حول العلاقات التي يسبرها، والشخصيات التي يستغرق في أعماقها، وتوازنات القوى في هذه العلاقات التي تتكشف حلقة بعد الأخرى.
يطرح «لعبة نيوتن» أسئلة وتساؤلات حول العلاقات الإنسانية لا سيما العلاقات بين الرجال والنساء، سواء كانت علاقات حب أو زواج أو صداقة، ويتميز هذا المسلسل عن كثيـر من مسلسلات الموسم بتجنبه لتقديم شخصيات واضحة الملامح من البداية أو من اليسير توّقع تصرفاتها، لأن شخصياته تتطور مع تصـاعد الأحداث وعبر تفاعلها مع المجتمع الذي بدا معبئًا بالتناقضات والاضطرابات، مغمّدًا بالذكورية السامة.
أما الأهم من وجهة نظرنا، هو نجاح المسلسل في أن يجعل عددًا من قضايا العنف ضد النساء المسكوت عنها، موّضع نقاش موّسع بين المشاهدين والمتابعين، مما أسفر عن صعود وسمي #الطلاق_الشفوي و#الاغتصاب_الزوجي بين الوسوم الأكثر تداولًا في مصر عقب عرض الحلقات التي تناولت القضيتين، وفيما يتعلق بقضية الاغتصاب الزوجي على وجه الخصوص، فإن فتح حوار علني حولها – حتى إذا كانت أغلب الآراء حيالها في الوقت الراهن مهادنة وليست محتجة – يمثل خطوة في طريق رفع الوعي بحق المرأة الأصيل في تقرير ما إذا كانت على استعداد لممارسة الجنس مع الزوج أو غير مهيأة نفسيًا وجسديًا لذلك، وهو القرار الذي يجب أن يتبعه احترام لاختيارها، وليس الاعتداء عليها بزعم أن الشـرع يخوّل للزوج ذلك.
«لعبة نيوتن»
يعكس الاسم رؤية المؤلف والمخرج تامر محسن لأبطال حكايته، إذ يظهر في تتري المسلسل (المقدمة والنهاية)، نموذج للعبة بندول نيوتن المعدنية، التي تضم خمس كرات معلقة في صف واحد، يظل جميعها ساكنًا، ما لم يتم رفع إحدى الكرتين الموجودتين على طرفي الصف، لأنه في حال اصطدمت أي منهما ببقية الكرات، تنتقل الطاقة عبر الكرات الثلاث إلى الكرة الأخيرة التي ترتفع إلى الأعلى لتعود وترتطم بالكرات ذاتها، فترتفع مجددًا الكرة الأولى ويتكرر ما حدث وتستمر التصادمات، وهذا ما ينطبق على الشخصيات المحورية الخمس في المسلسل، إذ تتحرر شخصية هنا (منى زكي) من القيود المفروضة عليها وتخرج من حالة السكون، عند سفرها إلى الولايات المتحدة حتى تلد ابنها هناك ويحصل على الجنسية الأمريكية، مما يؤدي إلى بدء سلسلة من الارتطامات المتبادلة بينها وبين زوجها حازم (محمد ممدوح) الموجود في مصر، وذلك من خلال احتكاكهما وتفاعلهما مع الشخصيات الثلاث: مؤنس (محمد فراج)، بدر (سيد رجب)، وأمينة (عائشة بن أحمد).
مسلسل «لعبة نيوتن» من إخراج تامر محسن وهو أيضًا كاتب القصة، أما الإشراف على كتابة السيناريو والحوار فقد اضطلعت به مها الوزير، وضم فريق الكتابة سمر عبد الناصر ومحمد الشخيبي وعمّار صبري، وبالإضافة إلى الاسمين النسائيين الذين حضرا في فريق الكتابة، تأتي هند حيدر لتكون الاسم الثالث بين النساء اللاتي شغلن مواقع رئيسة في صناعة العمل خلف الشاشة، بينما تخضع بقية المواقع الرئيسة لسيطرة الرجال، ومنها: إدارة التصوير التي تولى مسؤوليتها محمود يوسف، والمونتاج الذي نفّذه عماد ماهر، والموسيقى التصويرية التي وضعها تامر كروان، وإنتاج المسلسل الذي استأثرت به شركة «سعدي-جوهر» لصاحبيها محمد السعدي وإيهاب جوهر.
علاقـة زوجيـة مبنية على أساس السيطرة والخضوع
يدور المسلسل حول زوجين، علاقتهما تحركها «النزعة الذكورية»، إذ يقنع حازم هنا بأنه يخاف عليها ويريد أن يحميها ويمنع عنها الأذى الذي قد تكون هي نفسها مصدره، مما يمكّنه من التحكم فيها وتقييد أقوالها وأفعالها وتحركاتها، إلا أن هذا الوضع يتغير بعد أن يتفق الزوجان على سفر الزوجة حتى تلد ابنهما في الولايات المتحدة الأمريكية، فيحصل بذلك على جنسـية أقوى دولة في العالم، حيث يتباعد الزوجان، ويظهر في طريقيهما أشخاص جدد، فيتلاشى السكون الذي كانت تتسم به حياتهما، ويتصاعد الزخم والفوضى.
يتوغل مسلسل «لعبة نيوتن» في حياة هنا وزوجها حازم، سواء في الحاضر أو الماضي عبر استرجاعه بشكل متقطع، ليكشف كيف تخلّقت شخصيتها الاعتمادية، ويبين الخلفية الاجتماعية التي أفرزت هذا التناقض والاضطراب، ويوضح دوافعها لخوض مغامرات غير محسوبة العواقب، قلما تنتهي في صالحها.
من خلال تفاعلات هنا مع الشخصيات المحيطة بها، يتجسد على الشاشة عدد من مظاهر العنف النفسي والجسدي والجنسي الذي تتعرض له النساء تحت مظلة القبول والدعم المجتمعيين، الناجمين عن قناعات راسخة بأن للرجل كامل الوصاية على المرأة، وكل الحق في التحكم في مصيرها، بل ومن المقبول أن يكون الإسقاط النفسي ركنًا أساسيًا في علاقتهما طالما كان الرجل هو من يمارسه، ولا شيء يضير في أن يقنعها بأنها تعاني من مشاكل نفسية هو الذي يعاني منها، عن طريق انتقادها الدائم ولومها بشكل مستمر والتشكيك في قدراتها في كل وقت. هذا ما فعله حازم بهنا حتى أضحت على يقين بأنها ضعيفة ستفشل إن ابتعدت عنه، وغير جديرة بالثقة تفتقر إلى حسن التصرف، إلا أن هذه الصورة التي شكلها وثبتها في ذهنها هي انعكاس للصورة التي غرستها أسرته داخله عن نفسه، عبر وضعه في مقارنة مستمرة مع شقيقه الذي تفوّق دراسيًا، ونجح مهنيًا، واستقر أسريًا مع زوجته وأبنائه في أستراليا، وهي أشياء لم يحقق حازم أي منها.
معارك اضطرارية لإثبـات الذات والبرهنة على استحقاق الثقة
شخصية هنا بكل ما تحمّله من اضطرابات وتشوش، هي نتاج متوّقع لتسلط أسرتها لا سيما الأم ثم سيطرة زوجها الذي وضع لها حدودًا، وحدد خياراتها، وأوهمها بأنها في احتياج دائم إلى طرف أقوى وأذكى منها.
وبالإضافة إلى مشاعر الوهن، وانخفاض القيمة الذاتية، والاحتياج الدائم إلى الآخر، التي رسختها أسرة هنا وزوجها لديها، هناك شعور بالتدني والنقص عن معظم النساء بثه داخلها المجتمع الذي يختزل المرأة في الإنجاب، وهو الأمر الذي كابدت المشاق لأجله بسبب ضعف بطانة الرحم التي جعلت من الصعب أن يثبت حملها أو يكتمل.
بعد فشل عدد من محاولات الحقن المجهري، طلبت هنـا من حازم عقب إجراء العملية التي أدت إلى حملها الناجح، أن يراجع نفسه في مسألة استمرار زواجهما، في حال فشـلت هذه المحاولة كسابقاتها، لأنها قد أصبحت عبئًا عليه، معللة طلبها بأنه يستحق أن يتزوج بامرأة «أصغـر» منها سنًا، باستطاعتها أن تنجب له أطفالًا مثلما تتمنى له أمه، بما يؤكد رؤيتها لذاتها كامرأة عاجزة وأقل شأنًا من بقية النساء.
“بس أنت تستحق أن يبقالك عيلة وولاد”
يتماس هذا مع الواقع الذي نعيشه، إذ أن ملايين النساء في المجتمع العربي مررن بتجربة شبيهة، واضطررن إلى إجراء العديد من عمليات الحقن المجهري واحدة تلو الأخرى، متحمّلات متاعبها النفسية والجسدية، تحت الضغط الهائل من المجتمع، لينفضن عن أنفسهن نظرات الشفقة أو الامتعاض التي تطاردهن، وليثبتنّ أنهن كاملات.
ولإثبات الذات أيضًا والبرهنة على استحقاقها الثقة في قدرتها على إدارة حياتها، تقرر هنا أن تفعل مثل «الستات اللي قلبها جامد.. الستات الناصحة» حسب وصف زوجها لهؤلاء اللائي يسافرن خلال الأيام الأخيرة من الحمل إلى الولايات المتحدة ليلدن أبناءهن هناك، ثم يعدن بمولود يحمل جواز السفر الأمريكي، ولذا تستغل سفرها لحضور أحد المؤتمرات برفقة زملائها في العمل، حتى تمكث بالولايات المتحدة بشكل غير شرعي حتى موعد الوضع، على أن يلحق بها زوجها إلا أن الظروف حالت دون تحقيق ذلك، ولأول مرة تختـار هنا التمرد وعدم الانصيـاع لحازم الذي أمرها بالعودة إلى مصر، وهدفها أن تثبت له ولوالدتها أنها ستنجح في التحدي الذي قررت خوضه حتى إذا لم يكن هو معها.
“ما هو في ستات تغرق في شبر ميه وفي ستات ناصحة بعيد عنك يعني”
تنجح هنا في التحدي ولكن بعد أن تتكبد خسارات، وتتعرض لمخاطر، وتتعثر أكثر من مرة، وترتكب أخطاءً وتعيد ارتكابها، وتوّرط نفسها في زواج آخر (بعد تطليق حازم لها شفويًا) برجل ذي عقلية مشابهة لعقلية زوجها الأول. الفارق الوحيد بينهما هو اعتماد الزوج الثاني على الدين والفقه كذريعتين للسيطرة عليه.
خلال فترة حمل هنا وتواجدها في الولايات المتحدة، يزداد التوتر بينها وبين حازم بعد أن باتت بعيدة عنه وليس بوسعه تقييد تصرفاتها وتحركاتها، فتنقلب مكالماته ورسائله إلى تهديدات بالعقاب والطلاق، سرعان ما تتحول إلى حقيقة عندما يطلقها شفهيًا عبر رسالة على تطبيق واتساب، قبل أن يعود ويقرر ردها إليه من دون أن يٌعلِمها.
جاءت قضية الطلاق الشفهي لتكون أحد محفزات الصراع القائم بين الأطراف الرئيسة، وساهم بروزها كامتياز ذكوري استخدمه حازم بصلف، في إضافة بُعد إنساني وحقوقي إلى السجال الجماهيري حول هذه القضية، الذي عادةً ما يهيمن عليه البُعد الفقهي، خاصة بعد أن بات مصير هنا معقودًا بنية حازم حين تفوّه بكلمتي «أنتِ طالق»، مثلما هو حال كثير من النسـاء المصريـات.
جديـر بالذكـر أن الحركة النسوية المصرية تناضل منذ أكثر من مئة عام لإلغاء الطلاق الشفهي، إلا أن المؤسسات الدينية تقف حائلًا دون ذلك، وكان رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي قد طالب في العام 2017 بإدخال تعديل تشريعي من شأنه حظر الطلاق الشفوي، إلا أن هيئة كبار العلماء بالأزهر عارضت ذلك، بدعوى أن هذا الشكل من الطلاق مستقر عليه لما يزيد عن ألف وأربعمائة عام.
شخصية هنا بعثراتها وسقطاتها لا يمكن حصرها في خانة واحدة، كخانة الضحية أو خانة المرأة القوية المتمردة، أو المرأة التي كانت في الخانة الأولى وانتقلت إلى الثانية بعد حدث جلل، أو المرأة الأنانية الحاقدة التي تفسد حياة الآخرين عمدًا، فهي امرأة تخطئ وتصيب بناءً على خبراتها المحدودة وشعورها تجاه ذاتها.
أما يارا شقيقة هنا (مايان السيد) ومنة شقيقة مؤنس (نور إيهاب)، وهما الأصغر سنًا بين الشخصيات النسائية، تريدان إحداث تغيير ما في حياتهما التي يُخضعها آخرون لسيطرتهم وينتزعون منهما حق التحكم فيها؛ ولذلك تحاول إحداهما أن تستكشف العالم الذي حجبتها عنه أمها وشقيقتها، والأخرى تدرك أن السبيل لبلوغ ضالتها، هو الاستقلال بحياتها والابتعاد عن عائلتها المتسلطة.
جسد المرأة ساحة للصراع والتفاوض
تجلي شخصيـة حازم وهي شخصية ذكوريـة بامتيـاز أن إحكام القبضة على جسـد المرأة هو أساس العلاقة التسلطية بين الرجل والمرأة، وتؤكد أقواله وأفعاله أن صاحب العقلية الذكورية لا يريد فقط أن يكون أول من يمارس الجنس مع المرأة التي تحظى بـ«شرف الزواج منه»، بل أن يكون هو الوحيد حتى إذا انفصلت عنه لتثبت إخلاصها له وتضع نفسها في خانة المُستحِقة لـ«الفرصة الثانية»، انطلاقًا من اعتقاده بأن جسدها ملكية خاصة له، لا يحق لرجل آخر أن ينافسه عليه أو يشاركه فيه.
“أنا هسألك سؤال واحد: لمسك؟”
في ضوء ذلك، يتحول جسد هنا إلى مصدر للمكايدة الذكورية بين حازم ومؤنس الذي تزوجته عقب تطليق الأول لها، ويصبح امتناعها عن ممارسة الجنس مع مؤنس، مدعاة للتفاخر من جانب الزوج السابق ومستثيرًا لغضب الزوج الحالي، لينتهي هذا التنازع الذكوري بمحاولة مؤنس أن يغتصب هنا عقابًا وترويضًا لها.
وقد حرص صنّاع المسلسل أن يتعاملوا مع الحدث الدرامي بوصفه جريمة اغتصاب، وليس إكراه على ممارسة الجنس، من خلال استخدام هنـا لكلمة «الاغتصاب» كوصف دقيق وواضح، وعدم إفساح المجال لتبرير اغتصاب الزوج على ألسنة الشخصيات، مكتفين بالإشارة إلى تطبيع المجتمع مع الجرم عبر إحدى الجمل التي جاءت على لسان هنا لتشرح سبب اعتراضها على اقتراح صديقها زياد (آدم الشرقاوي)، بشأن فضح مؤنس عبر مواقع التواصل الاجتماعي كمغتصب، إذ قالت «حتى لو صدّقوا إن أنا كنت متجوزاه هيشوفوا أنه عنده حق».
على الجانب الآخر، يعيش حازم متمتعًا بامتيازات وحصانات، تؤمن له التحرر في علاقاته الحميمة والتباهي بها، مع الأخذ في الاعتبار أن فكرة زواجه بامرأة متحررة جنسيًا لم تكن مطروحة إلى أن علم بأن ما تبقى لها في الحياة هو أيام معدودة، نتيجة انتشار الخلايا السرطانية في جسدها، حينها فقط يقرر أن لا يترك أمينة ترحل وهي بدرجة «شريكة حميمة»، وإنما في مرتبة أعلى حسب قناعاته.
في النهاية، يبدو أن معظم الرجال في «لعبة نيوتن» يريدون رسوخ وديمومة علاقات القوة المحكومة بمنطق التراتبية الهرمية. لكن هناك منغص وهو تلك الرغبة المشتركة لدى العديد من الشخصيات النسائية، في الخروج من حالة السكون، والعبث باستقرار حيواتهن المُتوهَّم، ومقاومة الجمود الذي يراد لهن أن يقبعن تحت سقفه، ولذلك تتواصل كرات البندول في التأرجح.