نرفض محاولات إيقافه ولكن: «الطاووس».. دراما تعيد تدوير القالب النمطي للناجية «المُستحِقة للدعم المشروط»
أثار مسلسل «الطاووس» جدلًا كبيرًا قبل بدء عرضه، بعد أن ربط كثيرون ممن شاهدوا الإعلان الترويجي، بين قصة المسلسل وجريمة الاغتصاب الجماعي التي وقعت في فندق الفيرمونت قبل سبع سنوات، وذاعت تفاصيلها على نطاق واسع في شهر يوليو الماضي، بعد أن نشر حساب «Assault Police» على موقع انستغرام منشورًا عنها.
وبعد أن شاع الاعتقاد بأن المسلسل يتناول هذه القضية تباينت ردود الأفعال إزاءه، إلا أن الجانب الأوسع منها كان محتجًا؛ بعض الاحتجاج كان تخوفًا من أن تكون صناعة مسلسل عن القضية بهذه السرعة، استغلالًا تجاريًا لقصة الناجية والشهود، وبعض الاحتجاج الصادر من المدافعين عن المعتدين، كان بزعم أنه من غير المنصف أن يخرج إلى النور عمل يتناول قضية لم يٌفصَل فيها بشكل نهائي ولم يصدر فيها حكم بالإدانة أو البراءة، وكثير من الاحتجاج كان من مجموعات ترى أن تناول قضية «اغتصاب» على الشاشة وخلال شهر رمضان أمر غير مقبول، بدعوى مخالفة ذلك لـ«أخلاق وقيم المجتمع».
في النهاية، شارك المسلسل في السباق الرمضاني، ولكن بعد أسبوع من عرضه أعلن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام التحقيق مع صنّاع العمل، بعد أن وردت إليه شكاوى ضد العمل واللغة المستخدمة فيه وبعض مشاهده، مؤكدًا في قراره على «ضرورة إعلاء القيم وعدم المساس بالأسرة المصرية أو الحط من شأنها»، إلا أن المجلس لم يتبع هذه الجملة المطاطية بأي توضيح شافٍ.
ردًا على قرار المجلس الأعلى للإعلام بشأن المسلسل، دشن مستخدمات ومستخدمون لمواقع التواصل الاجتماعي، وسمًا بعنوان #ادعم_مسلسل_الطاووس، اعتراضًا على الوصاية الأخلاقية التي تطارد أي قول أو فعل له علاقة مباشرة بأجساد النساء، سواء حدث ذلك عبر نص أو مقطع مصور منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، أو برنامج تلفزيوني، أو عمل فني. وبعد التحقيق مع صنّاع المسلسل، أعلن المجلس مساء الـ21 من إبريل الجاري، حفظ الشكاوى المقدمة ضده، عقب التأكد من حصوله على الموافقات اللازمة من الرقابة على المصنفات الفنية.
وتأتي هذه الواقعة لتذكرنا أن عبارة «قيم الأسرة المصرية» صارت عنوانًا للعديد من التحقيقات والمساءلات والقضايا والأحكام القضائية المتلاحقة خلال العام الأخير، من دون أن يصدر عن أي جهة رسمية تعريف محدد وصريح لها.
مسلسل «الطاووس» من بطولة جمال سليمان وسميحة أيوب وسهر الصايغ، وسناريو وحوار كريم الدالي تحت إشراف من المؤلف محمد ناير، وتصوير وإخراج رؤوف عبد العزيز، ومن إنتاج شيرين مجدي، ومونتاج أحمد حلمي، وديكور رامي قدري. وتبين هذه الأسماء غياب النساء عن الأدوار الرئيسة خلف الشاشة فيما عدا رئاسة الشركة المنتجة للعمل.
مضمون درامي عن قضية نسوية برؤية ذكورية
الحدث الرئيس في مسلسل «الطاووس» هو جريمة اغتصاب جماعي، وهو ما ينظر إليه قطاع واسع من الجمهور سواء كان متحفظًا ورافضًا أو مؤيدًا ومدافعًا بوصفه جرأة من صنّاع العمل، رغم أن الدراما المصرية سبق أن قدمت قبل 14 عامًا مسلسلًا كان الحدث الرئيس فيه هو جريمة اغتصاب، وهو مسلسل «قضية رأي عام» للمخرج محمد عزيزية وبطولة يسـرا، الذي شارك في موسم رمضان للعام 2007، وحقق نجاحًا جماهيريًا كبيرًا وقتها.
كان التناول الدرامي لقضية الاغتصـاب في مسلسل «قضية رأي عام» متقدمًا بالنظر إلى السياق الزمني، لأن العمل صدر وعُرض في وقت سابق على التحوّلات التي عرفها ملف العنف الجنسي في مصر، بعد تدافع جرائم الاعتداء الجنسي الوحشية فيما بين العامين 2011 و2014. وقد نجح المسلسل حينها في إثارة العديد من التساؤلات والنقاشات حول قضية الاغتصاب وقضايا العنف الجنسي بشكل عام.
على النقيض من ذلك، تأتي المعالجة الدرامية لقضية الاغتصاب في مسلسل «الطاووس»، لتكون شديدة النمطية، إذا أخذنا في الحسبان تطور النقاشات حول العنف الجنسي وجرائمه خلال السنوات العشر الأخيرة، وهذا ما نستفيض في تحليله وإثبات منطقيته.
يريد صنّاع العمل بوضوح أن يتعاطف الجمهور مع الناجية من جريمة الاغتصاب الجماعي، إلا أن الوسيلة التي اتكأوا عليها لتحقيق ذلك، هي التقاط بعض التفاصيل من قضية فندق الفيرمونت والتغاضي عن تفاصيل أخرى، وإضافة جزئيات تعيد إنتاج كليشيهات الدراما المصرية التلفزيونية والسينمائية عن هذه الجرائم؛ أولها هو ترسيخ الصورة النمطية لـ«ضحية» العنف الجنسي التي لا حيلة لها، والمُستحِقة للدعم طالما توّفر في نمط حياتها وسلوكها مجموعة من الشروط، وثانيها هو وضع المغتصبين من أبناء الأثرياء في قالب ضحايا فسـاد واستهتار أسرهم التي عوّدتهم على تجاوز «قيم المجتمع» و«القوانين» بدلًا من احترامها والالتزام بها، وثالثها هو الزج برجل في طريق الناجية ليرشدها ويوجهها إلى طريق النجاة واستعادة الحق، موقنًا أنه الوحيد القادر على هذا، ولذا يتحمّل المشاق ويكابد المخاطر، وتتجسد شخصية هذا الرجل في المحامي كمال الأسطول، يؤدي دوره جمال سليمان، الذي يتعامل مع الناجية أمنية، تؤدي دورها سهر الصايغ، بأبوية تترجمها الأفعال والأقوال، ومنها هذه العبارة التي قالها مخاطبًا شخصية بدرية، تؤدي دورها دانا حمدان، في الحلقة السابعة بعد تعرّضه للاعتداء الجسدي على أيدي المغتصبين انتقامًا منه بعد تحريكه الدعوى ضدهم بالوكالة عنها «ماحدش هيعرف يجيب حق البت دي غيري.»
من أجل التعاطف الجماهيري.. التشبث بالصورة النمطية للناجية المُستحِقة للدعم
كما ذكرنا، هناك تفاصيل في مسلسل «الطاووس» تبرز معها ظلال جريمة فندق الفيرمونت، كاختيار أن يكون المغتصبون في العمل الدرامي من أبناء ذوي النفوذ والمال، وهو الوضع في الجريمة الواقعية، وأن يستخدموا المخدر الذي استخدمه المغتصبون الفعليون لتغييب الناجية عن الوعي قبل التناوب على اغتصابها، وأن يصوّر المعتدون جزءًا من الجريمة، ويشاركوا المقطع مع بعض أصدقائهم متابهين بجريمتهم.
على الجانب الآخر، هناك اختلافات عديدة بين القصتين إلا أن الأبرز بينها هو الوضع الاجتماعي والطبقي للناجية، إذ اختار صنّاع العمل أن تكون من الطبقة المُفقَرة بدلًا من الطبقة العليـا، وأن تعمل بمهنة متواضعة حتى تنفق على نفسها وتساعد والدها، واتصالًا بذلك يختلف مكان وقوع الجريمة وسبب تواجد الناجية فيه، إذ أنه في جريمة الاغتصاب الجماعي التي وقعت في فندق فيرمونت نايل سيتي، تواجدت الناجية في هذا المكان كواحدة من الحاضرين لحفل خاص أقيم داخل الفندق. أما الشخصية في المسلسل تتعرض إلى الاغتصاب أثناء تواجدها بأحد الأفراح المقامة بالساحل الشمالي، ليس كمدعوة ضمن الحضور، وإنما كواحدة من العاملين بفريق الضيافة وهو العمل الذي اضطرت إليه حتى تسدد مصروفاتها الجامعية المتأخرة، وذلك يمثل إجابة مقبولة – إلى حد كبير – للمجتمع الذكوري عن سؤاله المتكرر للناجيات: إيه اللي وداها هناك؟
ومثلما تخلق بعض التفصيلات في مسلسل «الطاووس» تشابهَا مع جريمة فندق الفيرمونت، هناك أيضًا بعض الأمور التي تدنو به من مسلسل تركي يحمل اسم «ما ذنب فاطمة جول؟» صدر في العام 2010، وتدور أحداثه حول فتاة قروية تتعرض للاغتصاب على أيدي ثلاثة من أبناء أصحاب المال والنفوذ، وتواجه تحديات جسام بعد أن تقرر مقاضاة المغتصبين.
يؤطر مسلسل «الطاووس» للناجية كفتاة مغلوب على أمرها، تتحمل قسوة الظروف المعيشية بقناعة، وتتسم بحسـن الخلق «من منظور المجتمع الأبوي»؛ فهي المتفوقة في دراستها رغم ضيق الحال، المطيعة لأبيها، المتطلعة إلى الزواج برجل لا تشاركه قراراتها بل تستأذنه وتطلب موافقته قبل أن تفعل شيئًا، وهي التي لم تقصد مكان الجريمة للاحتفال أو الاستمتاع بوقتها أو الرقص بين أصدقائها بل ذهبت للعمل فقط، وليس لتمارس عملًا اختارته بل عملًا أجبرتها الظروف عليه، وليثّبت كاتب السيناريو والحوار الصورة، يضيفها ككلمات على لسان الشخصية في الحلقة الثامنة، خلال حديثها مع خطيبها الذي تخلّى عنها بعد ذيوع المقطع الخاص بالجريمة على الإنترنت، إذ تقول له «بتبصلي زي ما هما بصولي عشان عارفين إن أنا غلبانة ومليش أي حد في الدنيا.»
هذا هو النسق المهيمن على صياغة شخصية المرأة التي تتعرض للاغتصاب، إذا كان هدف القائمين على العمل الدرامي هو خلق تعاطف معها، إلا أن هذه الصياغة تضع الشخصية في خانة «الضحية» المقهورة، المتطابقة حالتها مع توقعات المجتمع، بما يؤهلها لنيل دعمه ومساندته، وسواء كان الالتزام بهذا النسق في مسلسل «الطاووس» اتقاءً لمصادمة المجتمع (وهو الأمر الذي لم يتحقق أيضًا بعد هذا الاختيار) أو لأي سبب آخر، فإن مواصلة الدراما التأكيد والترسيخ لفكرة «الدعم المشروط» تنزع حق النجاة وحق الدعم عن كثير من النساء اللاتي تعرضن لاعتداءات جنسية ولم تتوافر فيهن تلك السمات، أو بمعنى أصح لم يكنّ مقيدات بتوقعات المجتمع لهن ومنهن.