في شهر فبراير الماضي، نشرت إحدى الصحف المصرية نسخة مُسرّبة من مسوّدة مشروعِ قانون الأحوال الشخصية الذي أرسلته الحكومة إلى مجلس النواب، ومن ثَم أحال رئيس المجلس المشروع إلى لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية استعدادًا لمناقشته. وبعد تداول بعض مستخدمي مواصل التواصل الاجتماعي للمسوّدة، اشتعلت فتيلة الغضب بين النسـاء المصريـات، بعد أن تبين لهن حجم الانتهاكات التي تُشرعنها مواد القانون الجديد، رغم التعهدات المستمرة من جانب الدولة المصرية خلال السنوات الخمس الأخيرة، بالانتقال إلى قانون للأحوال الشخصية ينصف النساء صياغةً ومضمونًا، ويعالج المشكلات القائمة في القانون الحالي.

تؤكد مواد القانون التي نشرتها وسائل إعلامية أن المُشرّع المصري لا يزال يتعامل مع النسـاء بوصفهن «ناقصات للأهلية» ويتجاهل واقعهن، إذ يحرم مشروع القانون النسـاء من حقهن في الولاية على أنفسهن وأبنائهن، بينما يعطي ذويهن الذكور الحق في التحكم بشؤونهن واتخاذ القرارات المصيرية في حيواتهن.

جاءت هذه المسوّدة لتعصف بأي أمل في قانون ينتصر إلى النساء ويبدد الظلم الواقع عليهن، قانون يضع نهاية لإيقاف المجتمع إنفاذ بعض ما نص عليه القانون الحالي لأسباب ذكورية بحتة، مما دفع بمجموعة كبيرة من المنظمات النسوية والحقوقية المصريـة، إلى التعبير عن احتجاجها على ما جاء في مشروع القانون من مواد كارثية، وتأكيد استنكارها لإقصائها من التشاور إبان مرحلة الصيـاغة.

بالإضافة إلى ذلك، أطلقت ناشطات وسم #الولاية_حقي لتشجيع النساء والفتيات على التدوين من خلاله، وكشف النقاب عن المشاكل التي يواجهنها بسبب تعنت قانون الأحوال الشخصية بحقهن. وغايتهن من وراء ذلك هي الحشد ضد المشروع الجديد الذي يُبقي على المواد التي تنتزع من النساء ولايتهن على أطفالهن، إذ يحظر مشروع القانون – كما في القانون الحالي-  ولاية الأم على أطفالها في ما يتعلق بالتعليم والسفر وإصدار الأوراق الرسمية وغيرها من شؤون خاصة، فضلًا عن أن هذا المشروع يزيد الوضع سوءًا فيما يخص ولاية النساء على أنفسهن، إذ تنص إحدى مواده على أحقية ولي أمر المرأة في رفع دعوى قضائية لإبطال زواجها، إذا تزوجت من شخص يراه الولي غير كفء أو إذا تم الزواج من دون موافقته، كما يثبّت مشروع القانون حظر زواج المسلمة من غير المسلم، وزواج الرجل بامرأة لا تدين بدين سماوي.

هدنةُ مؤقتة لا تُحيي أملًا

نجح الغضب النسوي الجامح في إدخال مشروع القانون إلى مرحلة تعطيل مؤقت، بعد أن أكد رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي في احتفالية يوم المرأة المصرية، التي انعقدت في الـ21 من شهر مارس الماضي، على حرص جميع مؤسسات الدولة على خروج القانون على نحو يحقق مصلحة الأم والأب والأطفال، مشددًا على ضرورة توسيع الحوار المجتمعي حوله، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن مطالب النسـاء ستُجاب.

التخوّف من احتمالية أن يكون التراجع عن المناقشة المتعجلة لذلك المشروع في البرلمان، مجرد مراوغة لتهدئة المناخ الساخط عليه، ثم العودة به مصحوبًا ببعض التعديلات الشكلية، هو ما يجعل العديد من المنظمات النسوية المصريـة تواصل الضغط عبر بيانات وحملات إلكترونية؛ بعضها يطالب بتعديل بعض ما جاء في مشروع القانون، والبعض الآخر يطالب بقانون مدني للأحوال الشخصية، يعترف للمرأة (أي أن كانت عقيدتها وديانتها) بالأهلية الكاملة، ويضمن المساواة بين الجنسين في الزواج، والحضانة، والطلاق، ويمنع تعدد الزوجات المُباح في القانون الحالي أو على الأقل يحد منه عبر قرار من المحكمة بعد إقرار الزوجة الأولى بالموافقة.

في مصر، تبدو المطالبة بقانون مدني للأحوال الشخصية متحرر من القواعد الفقهية والآراء الدينية، كالركض وراء السراب لأن الباب أمام شيء كذلك مغلق بمواد الدستور، وبالتحديد المادتين الـ(2) والـ(7) منه، اللتين تتمتعان بمقبولية ودعم واسعين داخل المجتمع المصري، وهما أيضًا ملاذ الذكوريين لعرقلة محاولات الخروج بقانون ينصف النساء.

مكمن المعضــلة

لم تنص الدساتير المصرية التي صدرت قبل دستور العام 1956، على أن الإسلام دين الدولة، ولم ينص أي دستور مصري سبق دستور العام 1971 على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيس للتشريع، ولم يكن من المتوّقع قبل العام 1980 أن يزيد النص صرامةً، ويصبح بعد تعديله «الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع»، وهو ما تم تثبيته في الدستور الحالي للبلاد الذي صدر في العام 2014، إذ أبقت اللجنة المختصة بصياغته على نص المادة الثانية من دون تغيير ليظل كما يلي: الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع.

المعضلة ليست في إقرار الإسلام دينًا للدولة أو اللغة العربية لغة رسمية لها، لأن الدستور التونسي، الصادر في العام 2014 الذي يقر بمدنية الدولة صراحةً، ينص في الفصل الأول منه على «تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها»، وينص أيضًا دستور المملكة المغربية على الأمر ذاته في فصله الثالث، الذي يأتي فيه «الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية»، وفي هذه الحالة يصبح الإسلام جزءًا من تعريف الدستور بأركان هوية الدولة، إلا أنه لا يجعل قواعد هذا الدين مصدرًا للتشريعات، مثلما هو الحال في الجزء الثاني من المادة الـ(2) من الدستور المصري، التي تضع مبادئ الشريعة الإسلامية كمظلة رئيسة للتشريع في البلاد، وهو الأمر الذي تنعكس آثاره بوضوح على كل ما يتعلق بالنسـاء في القوانين، لا سيما قانون الأحوال الشخصية الذي يعني بأحوال الإنسان الخاصة وعلاقاته الأسرية.

وبمقتضى نص المادة الـ(2) من الدستور، أضحى لمؤسسة الأزهر الحق في إبداء رأيها «الفقهي» في التشريعات، ومراجعة إياها قبل تمرير أي تعديل للتحقق من مدى توافق التعديلات مع الشريعة الإسلامية، وتعزز المادة الـ(7) من الدستور المصري أحقية مؤسسة الأزهر في ذلك، من خلال الجزء الأول فيها الذي ينص على «الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية، ويتولى مسؤولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم.»

استقواءً بالدستور.. الأزهر يضيف إلى مهامه «التشريع»

تريـد مؤسسة الأزهر  -على ما يبدو- توسيع وتعميق وصايتها على التشريع في مصر، فقد رفضت في العام 2017، أن تبدي رأيها الفقهي في مشروعات قانون الأحوال الشخصية التي أرسلها البرلمان إليها قبل مناقشتها رسميًا تحت قبته، وأقحمت نفسها في عملية التشريع بصياغة مشروع بديل لقانون الأحوال الشخصية.

كان شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، قد أصدر قرارًا في شهر  أكتوبر من العام 2017، بتشكيل لجنة لصياغة مشروع بديل لقانون الأحوال الشخصية، انتهى العمل منه وإرساله إلى مجلس النواب في العام 2019، وقد نشرت المؤسسة في جريدتها الرسمية «صوت الأزهر»، مسوّدة المشروع التي جاءت مفجعة في رجعيتها، إذ لا ينص المشروع على منع  أو حتى تقييد تعدد الزوجات، ولا ينص على منع الطلاق الشفهي، ويفتح الباب في إحدى مواده أمام إباحة تزويج القاصرات عبر النص على «الزواج قبل بلوغ هذه السن (18 عامًا) لا يكون إلا بإذن القاضي للولي أو الوصي في حالات الضرورة»، فضلًا عن تمكسه بمنع الزواج بين أصحاب الديانات المختلفة.

إقدام الأزهر على صياغة مشروع قانون كامل للأحوال الشخصية، وتقديمه إلى البرلمان المصري، أثار حفيظة المنظمات والمجموعات الحقوقية والنسوية، وقوبل بانتقادات من العديد من النواب البرلمانيين والشخصيات العامة، خاصة أن التشريع مسؤولية البرلمان المصري وفقًا للدستور، الذي ينص في مادته رقم (101) على «يتولى مجلس النواب سلطة التشريع»، إلا أن المؤسسة الدينية تبدو مُصرّة على أحقيتها في ذلك، إذ قال الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر في تصريحات لجريدة «صوت الأزهر»، منشورة في عددها الصادر بتاريخ 24 مارس من العام 2021، إن «الأزهر حين يتقدم بمقترح قانون للأحوال الشخصية فهو يزاول عمله أو واجبه الأول بحكم الدستور وبحكم القانون وحتى بحكم العامة، لأن العامة لا تقبل أن يُقنن لها من لا علم له بشريعته أو بأمور الأسرة من زواج وطلاق وميراث وغيرها.»

تصريحات شيخ الأزهر لا يمكن فصلها عن الموقف الدستوري للمؤسسة التي يتولى مسؤوليتها، فعلى الرغم من أن للمؤسسة وضع استشاري، فإن مسألة تقييد التشريع في مصر بما يسمّى مبادئ الشريعة الإسلامية، هي ما يعطي هيئة كبار العلماء بالأزهر الثقة في موقفها وتحركاتها، بدعوى أن الأزهر هو صاحب الحق منفردًا في تفسير مبادئ الشريعة الإسلامية.

القول في اتجاه والفعل في اتجاه معاكس

تُسوّق مصر لنفسها بوصفها دولة مدنية حديثة، إلا أن الدولة المدنية يلزمها مواكبة التطور التشريعي الحاصل في العالم، الذي يرسخ قيم المساواة والمواطنة وحماية الحريات الفردية، ولذا فإن وضع مبادئ الشريعة الإسلامية التي عرّفتها وثائق الأعمال التحضيرية للقانون المدني المدني المصري، بأنها القواعد المشتركة بين الفقه الإسلامي كأساس للتشريعات، يعني إلزام جميع الأطراف باتباع ما جاء في المذاهب الفقهية لا سيما المذاهب الأربعة الرئيسة (الحنفية –الحنابلة – المالكية –الشافعية) التي نظمت حياة الأفراد قبل قرون من الزمن، وهذا يعني احتجاز الجميع داخل شرنقة الماضي، فضلًا عن أن هذا التقييد يظل كالكابوس يطارد كل تحرّكٍ نادر تجاه تجديد القوانين برؤى تقدمية، لأن مثل هذه القوانين تصبح في مرمى دعاوى الدفع بـ «عدم الدستورية»، مثلما هو حال التعديلات التي أجريت على قانون العقوبات المصري في العام 2008 لتجريم تشويه الأعضاء الجنسية للأنثى (تشويه الأعضاء التناسلية الخارجية)، التي استهدفتها دعاوى الدفع بعدم الدستورية بزعم مخالفتها للمادة الـ(2) من الدستور، وأبرزها تلك المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 289 لسنة 31 قضائية «دستورية»، التي قضت المحكمة برفضها في العام 2013.

كذلك لاحقت دعاوى عدم الدستورية قانون الأحوال الشخصية، رقم 1 لسنة 2000 المعروف باسم «قانون الخلع»، وكانت أولها الدعوى المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 201 لسنة 23 قضائية «دستورية»، وقد أدعى صاحبها أن أحد مواد القانون تتعارض مع نص المادة الـ(2) من الدستور، إلا أن المحكمة أصدرت حكمها برفض الدعوى في العام 2002.

بسبب الإزدواجية القائمة بين القول والفعل، نحن في دائرة مفرغة منذ عقود، نبدأ وننتهي عند النقطة ذاتها، ثم نبدأ من جديد وننتهي في المكان نفسه، لا نتوقف عن الدوران ولا يمكننا الفكاك، وهكذا دواليك.