«لا شيء يقهر الموت مثل الكتابة، لولا كتاب التوراة ما عاش النبي موسى أو اليهودية، لولا كتاب الإنجيل ما عاش المسيح أو المسيحية، لولا كتاب القرآن ما عاش النبي محمد أو الإسلام. ألهذا السبب كانت الكتابة مُحرَّمة على النساء والعبيد؟!»

نوال السعداوي – كتاب أوراقي.. حياتي (الجزء الثاني)

غيّب الموت عن عالمنا في الـ21 من مارس الجاري سيدةً استثنائيةً، بعد نضال ملهم في سبيل التحرر من القيود الذكورية استمر لما يزيد عن 65 عامًا، وحرب ضروس ضد الرأسمالية والطبقية والفاشية الدينية دامت لأكثر من 50 عامًا.

في مارس من العام 2020، كانت صورة الطبيبة والأديبة والمناضلة نوال السعداوي تزين واحدًا من مئة غلاف أصدرتها مجلة التايم الأمريكية (Time Magazine)، ضمن مشروعها «مئة امرأة لهذا العام»، احتفاءً بها وبنضالها متعدد الأشكال والأدوات ضد السلطوية الأبوية. وبعد عام، تعود صور نوال السعداوي لتحتل صفحات كبريات المجلات والمواقع الإخبارية المحلية والعالمية، مرفقة بمنشورات تحتفي برحلتها الحافلة بمعارك شجاعة ومواقف صلبة، والسبب هذه المرة هو رحيلها المباغت.

تحدت نوال السعداوي كل مظاهر الأبوية، لم تخش أي منها، فولجت إلى الطرق الوعرة بكتاباتها، وخاضت بكلماتها معارك ضارية، وكسرت جميع الأصفاد، فلم يعرف لها الخوف سبيل ولم يتمكن منها اليأس.

لقد كانت قراءة ما تكتبه نوال أحد سبل التمرد على سيطرة الأسرة، وصورة من صور مقاومة المجتمع المتسلط، وكانت مشاهدة الفتيات والنساء لحواراتها ونقاشاتها المتلفزة خروجًا عن الأدب الذي صاغت تعريفه العقلية الذكورية، وكان الإعلان عن الاتفاق مع آرائها أو بعض منها يفتح المجال أمام النبذ المجتمعي. ولكن الإرهاب الذي مورس لعقود ضد نوال وضد كل من تأثر بها، لم يمنع تمدد أفكارها وتجاوزها للسياج التي وضعها الأصوليون والمحافظون، ليس في مصر فحسـب ولا البلدان الناطقة بالعربية فقط، وإنما العالم بأســره.

والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن كثيرًا من الفتيات والنسـاء اللاتي انخرطن في الحِراك النسوي المصري والعربي خلال العشرين عامًا الأخيرة، كانت كتابات نوال السعداوي سببًا في إدراكهن لمظاهر العنف المستترة، والمفاهيم المُخلّقة لخدمة المنظومة الأبوية، وكانت كلماتها محفزًّا لهن على المجابهة بدلًا عن التكيّف، والمقاومة عوضـًا عن التعايش مع الظلم الواقع عليهن.

من رحم الغضب ولدت كتابات ألهمت الملايين

في حوار لها مع المؤرخ والناقد السويسري هانز أولريش أوبريست، نشرته مجلة «E-Flux» الأدبية الشهرية، في العام 2013، تحدثت نوال عن الطريق الذي قادها إلى الكتابة، لتؤكد لكل من يعرفها أنها بالفعل امرأة غاضبة، كانت فتاة غاضبة، وقبل ذلك طفلة غاضبة، إلا أن ما يميز هذا الغضب هو أنه نتج عن وعي بغياب العدالة ورسوخ الازدواجية، ولذلك غدت الكتابة أداتها للاحتجاج ومن ثم وسيلتها للتحرر والتغيير. وقد أجابت عن أحد أسئلة المحاور قائلة «أنا أحب أي شكل إبداعي للتعبير عن الذات، سواء كان الرقص أو الموسيقى أو الكتابة. لم أحلم أبدًا أن أكون طبيبة، لم أحلم بذلك قط، فقد كنت أكره الأطباء، وكرهت المعلمين والأساتذة الجامعيين أيضًا، فانتهى بي الأمر إلى أن أصبح طبيبة وأستاذة جامعية. لكنني كنت أكتب طوال حياتي. وما شجعني حقًا على الكتابة هو استيائي مما يحيط بي. لقد كنت غاضبة من المجتمع؛ كفتاة كنت أشعر أن ثمة شيئًا خاطئًا في العالم من حولي، في أسرتي، في المدرسة، في الشوارع، وكنت أشعر بوجود خطأ ما في الطريقة التي يعاملني بها المجتمع. لذا يمكنني أن أخبرك أن الكتابة جاءت من عدم الرضا، من الغضب.»

أسفر هذا الغضب عن نحو خمسين عملًا مكتوبًا، تنتمي إلى مختلف الفنون الأدبية، كالرواية والمسرحية، والسيرة الذاتية، والمقالات، وتمت ترجمة أعمالها تلك لما يقرب من 40 لغةً، ولعل أبرز مؤلفاتها: كتاب المرأة والجنس، ورواية امرأة عند نقطة الصفر، وكتاب المرأة والصراع النفسي، ورواية سقوط الإمام، بالإضافة إلى مذكرات طبيبة، ومذكراتي في سجن النساء.

لأنها أدركت باكرًا أن العنف مركّب.. كان نضالها متعدد الجبهات

كانت نوال السعداوي واحدة من النسويات الأوليات في العالم الناطق بالعربية، اللاتي تبنين المنظور التقاطعي في تعريفهن للنسوية وتحليلهن لتجارب النساء وواقعهن المعقد. وقد داومت منذ ثمانينيات القرن الماضي على التأكيد والتشديد على أن قمع النساء واضطهادهن، لا يشكله شيء واحد بل أشياء عديدة كالرأسمالية، والطبقية، والعنصرية، والتعليم، والسلطة الدينية.

وفي حوار سابق لها مع الجارديان البريطانية (The Guardian)، نشرته الصحيفة في العام 2010، قالت نوال إن «النسوية تشمل كل شيء؛ العدالة الاجتماعية، والعدالة السياسية، والعدالة الجنسية، وتربط بين الطب، والأدب، والسياسة، والاقتصاد، وعلم النفس، والتاريخ.» ثم أكدت رؤيتها بالقول «النسوية هي كل هذا. لا يمكن  لك أن تدرك قهر النساء من دون استيعاب كل ذلك.»

المــرأة والجنس.. واقتحام المحظورات

أصدرت نوال السعداوي في العام 1969، كتابها الأكثر إثارة للجدل حتى يومنا هذا وهو  «المرأة والجنس»، الذي يعتقد قطاع عريض من الناشطات النسويات، أنه يناظر في أهميته للحركة النسوية العربية، أهمية كتاب «الجنس الثاني» لسيمون دي بوفوار بالنسبة للحركة النسوية الغربية.

يتناول الكتـاب مسائل عديدة تعد شديدة الحساسية ليس فقط عند صدوره، بل حتى وقتنا الحالي، كجسد المرأة وسلطة المجتمع عليه، والعذرية والهوس بها، ومفهوم «الشرف»، وإزدواجية التعامل مع الذكر والأنثى في التربية والتنشئة، وتشويه الأعضاء التناسلية الخارجية للإناث (تشويه الأعضاء الجنسية البارزة)، واللذة الجنسية، والإمتاع الذاتي.

وبالطبع، كتاب كهذا لم يخرج إلى النور بسهولة، فقد صادرته السلطات المصرية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، فاضطرت نوال إلى نشره من العاصمة اللبنانية بيروت بعد عامين، وبطريقة ما وصلت نسخ منه إلى مصر، فانبرى أطباء ورجال دين للرد عليها بوصفها عدوة للمجتمع والإسلام، واتهموها بتشجيع النساء على «الفسـاد الأخلاقي»، زاعمين أن تشويه الأعضاء التناسلية الخارجية الأنثوية (تشويه الأعضاء الجنسية البارزة) ممارسة واجبة لحماية عذرية الفتاة وتقليل شهوتها. ولم يكن هؤلاء ليهدأوا من دون أن يعاقبوا المرأة التي خرجت عن الطوق الذكوري، وتحدّت الذهنية الأبوية ذات النزعة السلطوية التي لا تقبل باختلاف ولا تسمح بالتمرد عليها، فانتهى الأمر إلى فصلها من العمل بوزارة الصحة في العام 1972.

«في الوقت الذي يعترف فيه المجتمع بالرغبة الجنسية عند الولد، فإنه ينكرها على البنت، وبهذا يمكن القول أن بلوغ الولد إيجابي يؤكد به غريزته، ورغبته في الجنس الآخر. أما بلوغ البنت فمعناه نكران الجنس ونفيه.»

من كتاب «المرأة والجنس»

وكانت أول المدافعات ضد تشويه الأعضاء الجنسية الخارجية

بعد أن تخرّجت نوال السعداوي في كلية طب قصر العيني بجامعة القاهرة في العام 1955، قررت أن تخوض حربًا على أحد الأدوات الأساسية في قمع النسـاء، وعلى كل مؤيديها وحماتها، وهي تشويه الأعضاء الجنسية الخارجية المعروفة باسم «ختـان الإناث»، وقد استندت في احتجاجها على حقائق طبية تثبت عدم جدواه وخطورة مضاره، لتصبح أول امرأة مصرية تحارب في العلن وبصوت جهور جرائم تشويه الأعضاء التناسلية الخارجية، واستمرت حربها حتى نهاية العمر رغم الاتهامات المتواصلة بالفسوق، والإهانات المقذعة، والتهديدات والملاحقات بالقول والفعل. ولم تنصرف نوال عن ساحة الحرب، حتى بعد صدور أول تشريع يجّرم تشويه الأعضاء الجنسية الخارجية في العام 2008، أو بعد تشديد العقوبات في العام 2016، لأن هدفها طوال الوقت كان تغييـر الواقع وليس تعديل كلمات في قوانين أو إضافة عبـارات خدّاعة إليها.

«لماذا تحدث عملية ختان الذكور والإناث؟ هل يمكن أن يأمر الله بقطع عضو هو الذي خلقه في جسم المرأة؟ أيمكن أن يقع الله في هذا التناقض، أن يخلق شيئًا ثُم يأمر بقطعه؟ كنت طبيبة ناشئة في قرية طحلة محافظة الغربية عام ١٩٥٧، وبدأت أشعر بضرورة التصدي لهذه العمليات البشعة، ومن هنا بدأت قراءة التاريخ والأديان لأعرف كيف بدأت هذه العمليات.»

من كتاب «عن المرأة والدين والأخلاق»

ولهذا أيضًا يكرهونها: واجهت المجتمع بازدواجيته

عمّدت نوال إلى كشف تناقضات المجتمع في التعامل مع المرأة والرجل، خاصة فيما يتعلق بمسألة «الشرف»، فلم تكف منذ سبعينيات القرن الماضي عن الكتابة اعتراضًا ورفضًا لاختزال الشرف في سلوك المرأة، وما يمس حياتها الجنسية خصوصًا، وكثيـرًا ما احتجت على ربط أعضائها الجنسية بالإثم والخطيئة والنجاسة، في مقابل ربط الأعضاء الجنسية للرجل بالقوة والتفوق والتميز.

خلال مسيرتها الطويلة، واظبت نوال على تذكير معارضيها ومؤيديها على حد سواء، أن الشرف هو الصدق قولًا وفعلًا بالنسبة للرجل والمرأة وليس شيئًا آخر. كما طالبت مرارًا بتشريع قانون ضد الجرائم التي ترتكب في حق النسـاء بزعم الدفاع أو حماية الشرف، وكان آخرها مطالبتها الصريحة بذلك في مقال كتبته تحت عنوان «جرائم تقتل الفتيات والنساء باسم الشرف.. أي همجية وأي عار على الشرف؟!»، منشور بجريدة المصري اليوم، بتاريخ الـ21 من سبتمبر في العام 2020.

ولا شك أن من أهم نتائجِ الازدواجية الأخلاقية التي نتجت عن النظام الأبوي في مختلف المجتمعات هو ذلك المفهوم القاصر عن الشرف، فقد ارتبط الشرف بالحفاظ على الأعضاء الجنسية وارتبط بالمرأة فقط، بل إن شرف الرجال لا يتعلَّق بسلوكهم هم، وإنما يتعلق بسلوك زوجاتهم أو بناتهم أو أمهاتهم، فالرجل الفاسق شريف إذا كانت زوجته لا تخونه مع رجل آخر، والرجل المنافق شريف طالما أن ابنته تحافظ على غشائها قبل الزواج.

من كتاب «قضية المرأة المصرية السياسية والجنسية»

حتى القضبان لم تخمد النضال أو تعطّله

في حوار لها مع قناة العربية، أذيع في شهر مايو من العام 2018، قالت نوال السعداوي أن أقسى موقف تعرضت له خلال حياتها، هو إلقاء القبض عليها في العام 1981.

«إذا كانت أصعب لحظة في حياة المحكوم عليه بالإعدام هي اللحظة التي تسبق سقوط المقصلة على عنقه، فإن أصعب لحظة في حياتي هي التي سبقت دخولي الزنانة.»

من كتاب «مذكراتي في سجن النسـاء»

اعتقلت نوال السعداوي في الـ6 من سبتمبر في العام 1981، ضمن حملة اعتقالات واسعة طالت المفكرين والكتاب المعارضين للرئيس المصري آنئذٍ محمد أنور السادات، وعرفت باسم «اعتقالات سبتمبر».

قضت نوال ثلاثة شهور داخل سجن النساء بالقناطر الخيرية، لم تنقطع خلالها عن الكتابة، رغم حظر دخول الأقلام والأوراق والكتب إلى عنابر سجينات وسجناء الرأي والقضايا السياسية، فكانت تدوّن مذكراتها بقلم كحل على أوراق المناديل وأوراق  السجائر، وقد صدرت هذه المذكرات بعد خروجها من السجن في كتاب بعنوان «مذكراتي في سجن النسـاء»، ويعتبر هذا الكتاب واحدًا من أشهر منتجات أدب السجون في ساحات الأدب العالمي.

حينما تدافعت قصص الناجيات من العنف الجنسي خلال النصف الثاني من العام الماضي، كانت كل قصة وشهادة تلتصق بسابقتها، لتعزز صدقيتها، وتخلخل الثوابت التي أرساها العقل الذكوري، وقد أدى ذلك إلى تشكّل شبكات دعم وتضامن بين نسـاء ربما لم يلتقين من قبل وقد لا يلتقين لاحقًا، لكنهن استمددن القوة والشجاعة من بعضهن البعض عندما اخترقن الحدود، ودفعن أسوار الصمت. نوال فعلت ذلك في السابق، فقد قدمت الدعم ماديًا لعشرات النساء كطبيبة، وقدمته للملايين معنويًا كمفكرة وأديبة لا يشق لها غبار، وخلقت تضامنًا بين ملايين النساء حينما سردت حكايات الآلم والعنف التي عايشتها، فترددت أصداؤها في عقول من قرأنها، وأدركن عندها أنهن لسن وحيدات.

شيّدت نوال السعداوي جسـرًا غير مرئي بينها وبين السواد الأعظم من النساء اللائي قرأن كتاباتها، وبفضل هذه النصوص وما حملته من أفكـار، غيّرت عشرات الملايين من الفتيات مساراتهن، وفككن القيود التي تكبلهن، ونجين من الآلام، واستعدن السلطة على حيواتهن.

«وبعد أن دخلت السجن أدركت أن تضامن النساء أخطر من السلاح النووي، لم يكن يهدد إدارة السجن إلا التضامن بيننا نحن النساء. بعد أن خرجت من السجن أدركت أن تضامن النساء يمكن أن يُسقط النظام الحاكم.»

نوال السعداوي – كتـاب: أوراقي.. حياتي  (الجزء الثالث)