يبدو العالم في أغلبه متفائلًا ببدء توزيع لقاحات مضادة لفيروس كورونا (COVID-19) في عدد من الدول، بعد أن ضرب الكرة الأرضية من أدناها إلى أقصاها مُخلفًا 80 مليون إصابة، وما يقترب من 2 مليون وفاة في عام واحد، بالإضافة إلى أعداد أضخم خارج التسجيل. لكن من بين أكثر من 7 مليار شخص يعيشون في هذا العالم، هناك امرأة واحدة يُعتبر بالنسبة لها التوّصل إلى لقاحات تعتمد على تقنية مرسال الحمض النووي الريبي (mRNA) لمواجهة الجائحة والمساهمة في وضع نهاية لها، بمثابة اعتراف بسنوات طويلة من الإصرار والمثابرة من أجل إثبات فعالية استخدام هذه التقنية في التصدي للأمراض والأوبئة. هذه السيدة هي عالمة الكيمياء الحيوية كاتالين كاريكو.

نضال مفعم بالثقة لإثبات فرضية قد تنقذ الملايين حول العالم

مع تفشي فيروس كورونا، دخلت شركات الأدوية الكبرى ومختبرات الأبحاث في سباق مع الزمن من أجل تطوير لقاح لاحتواء الجائحة؛ بعضها قرر الاعتماد على التقنيات المعتادة والتقليدية في تصنيع اللقاحات التي ترتكز على تخليق فيروسات غير نشطة أو ضعيفة تعمل على تحفيز الجهاز المناعي لإنتاج أجسام مضادة للفيروس، ويأتي بين أبرز المعتمدين على هذه التقنية: شركة آسترازينيكا الإنجليزية-السويدية متعاونة مع جامعة أكسفورد البريطانية، والمركز الوطني الروسي لبحوث علم الأوبئة والأحياء الدقيقة «مركز غامالي» ، وشركة سينوفاك بيوتيك الصينية.

على الجانب الآخر، قررت جهات أخرى المراهنة على تقنية ما انفكت في طور التجارب في عالم تصنيع اللقاحات، وهي تقنية مرسال الحمض النووي الريبي (mRNA)، التي اعتمدت عليها شركتا فايزر الأمريكية (Pfizer) وبيوأنتك الألمانية (BioNTech) لتطوير لقاحهما، واستخدمتها أيضًا شركة موديرنا الأمريكية (Moderna) لإنتاج لقاحها. وقد أظهر اللقاحان فعالية تصل إلى 95 في المئة خلال المرحلة الأخيرة من التجارب السريرية، ومنحتهما إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) ترخيص الاستخدام الطارئ، وقد بدأت الولايات المتحدة والعديد من الدول عمليات التقليح باستخدامهما قبل نهاية العام الجاري.

هذه التقنية تعتمد على نسخة صناعية من المادة الوراثية لفيروس كورونا، توجه خلايا الجسم لإنتاج أجزاء من البروتين تشبه قطعًا موجودة في الفيروس، وبالتالي يتعلم الجهاز المناعي التعرف إلى تلك القطع ومهاجمتها إذا تعرّض الإنسان للعدوى الفيروسية.

استخدام تقنية مرسال الحمض النووي الريبي (mRNA) في تصنيع اللقاحات هو حلم آمنت بإمكانية تحقيقه كاتالين كاريكو (65 عامـًا)، عالمة الكيمياء الحيوية التي هاجرت في عمر الثلاثين، من بلدها المجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعد فصلها من مركز البحوث البيولوجية التابع للأكاديمية الهنغارية للعلوم، نتيجة تمسكها بالبحث في مجال الحمض النووي الريبي (RNA)، وهو ما اعتبرته إدارة المركز حينها أمر غير واعد ولن يجدي نفعًا.

تركت كاتالين المجر برفقة زوجها وابنتها البالغة من العمر وقتذاك عامين فقط، وفي حوزتهم 900 جنيه أسترليني مخبأة في دمية طفلتها، كانت ثمن سيارة العائلة التي باعها الزوج في السوق السوداء لتوفير نفقات السفر.

ذهبت كاتالين إلى الولايات المتحدة مُحمّلة بطموح كبير، تبحث عن فرصة بديلة ترضي شغفها تجاه البحث العلمي حول الحمض النووي الريبي (RNA) وإمكانيات الاستفادة منه في الوقاية من الأمراض وعلاجها، وهناك انضمت إلى جامعة تمبل البحثية في ولاية بنسلفانيا في العام 1985، وتابعت بحثها الذي بدأته في المجر، ثم توّسعت فيه بعد انتقالها إلى كلية الطب في جامعة بنسلفانيا، حيث أظهرت التجارب التي كانت تجريها على الحيوانات احتمالية نجاح فرضية استخدام هذه المادة الوراثية في علاج الأمراض، مما حفّزها على مواصلة البحث لإثبات إمكانية استعمال الحمض النووي الريبي (RNA)، في معالجة السكتات الدماغية والتليف الكيسي.

لكن سرعان ما تبدت عقبة كؤود أمام العلماء الذين كانوا يعملون في الحقل ذاته، إذ وجدوا أن حقن الفئران بمرسال الحمض النووي الريبي المُصنّع (mRNA)، يحفز استجابة سلبية من الجهاز المناعي تسبب التهابات شديدة قد تؤدي إلى الوفاة، وهو ما أوقف اهتمام ودعم المؤسسات البحثية والعلمية تجاه البحث في هذا المجال.

في المقابل، كانت كاتالين موقنة بالقدرة على حل هذه الإشكالية، مؤمنة بأن فرضيتها ستثبت صحتها وستساعد في إنقاذ كثيرين، ولذلك قضت الخمس سنوات الأولى من حقبة التسعينيات تبحث عن منح لتمويل بحثها العلمي، سواء كانت منحًا حكومية أو دعمًا ماليًا من شركات أو مستثمرين، إلا أنها لم تتمكن من الحصول على أي منحة لمتابعة عملية البحث، وقوبلت كل طلباتها بالرفض.

وفي تصريحات لصحيفة «بيزنس انسايدر – Business Insider» الرقمية الأمريكية، منشورة بتاريخ الـ 12 من ديسمبر الجاري، تقول كاتالين «حاولت الحصول على تمويل حكومي، أو تمويل خاص من مستثمرين. لكن الجميع رفض.»

ومثلما كانت الجهات المانحة عائقًا في طريق كاتالين، عطّلت جامعة بنسلفانيا مشروعها إذ أصدرت إدارتها في العام 1995 إنذارًا رسميًا يضعها أمام خيارين مجحفين، أولهما هو التخلي عن عملها البحثي المتعلق بالحمض النووي الريبي (RNA)، بعد أن صار واضحًا استحالة استكماله في ظل انعدام فرص التمويل، وثانيهما هو القبول بتخفيض رتبتها الأكاديمية وتقليل راتبها الشهري، إذا أرادت المضي في بحثها الذي تراه الجامعة مضيعةً للوقت.

وفي حوار مع منصة «STAT» الأمريكية المعنية بأخبار وقضايا الصحة، منشور بتاريخ الـ10 من نوفمبر الماضي، تستعيد كاتالين ما تعرّضت له من جور وتعسف، «فكرت في الذهاب إلى مكان آخر أو القيام بشيء آخر تمامًا، وشعرت بأنني ربما لست جيدةً بما يكفي، ولست ذكيةً بالقدر الكافي.»

لم يكن ذلك هو الاختبار المؤلم الوحيد الذي وجدت كاتالين نفسها مضطرة إلى التعامل معه في ذلك الوقت، فقد علمت بإصابتها بالسرطان في الأسبوع الذي أصدرت خلاله الجامعة الإنذار. وبينما كانت تستعد للعملية الجراحية، كان ذهنها منشغلًا بمسألة الجامعة وتقييم الخيارين من زاوية شخصية وأخرى مهنية، حتى اهتدت إلى الاستمرار في عملها البحثي والقبول بتخفيض رتبتها وراتبها.

هذه الصلابة تؤكدها كاتالين في حوار مصوّر أجرته مع وكالة فرانس برس (AFP)، إذ تقول «رأيت أن مقعد (المختبر) هنا، وعلي فقط أن أقوم بتجارب أفضل.»

الإرادة والإصرار يفتحان أحد الأبواب المغلقة

كان العام 1997 نقطة تحوّل في مسيرة كاتالين وفي طريقها لتحقيق ما تصبو إليه، حيث عاد الأمل بعد أن التقت بالخبير في علم المناعة درو وايزمان، الذي انضم إلى جامعة بنسلفانيا في العام نفسـه، وكان يعمل آنذاك على تطوير لقاح مضاد لفيروس نقص المناعة (HIV)، في معاهد الصحة الوطنية الأمريكية (الوكالة الرئيسة لحكومة الولايات المتحدة المسؤولة عن البحوث المتعلقة بالطب الحيوي والصحة العامة).

بعد حديث مُعمّق حول أبحاثهما وما توّصلا إليه وما يسعيان إلى تحقيقه، أدرك درو وكاتالين أنهما يقفان على أرضية مشتركة، وقد يسفر التعاون بينهما عن إنجاز علمي كبير، خاصة أن درو يملك من التمويل ما يكفي لاستئناف التجارب العلمية التي أوقفتها كاتالين بسبب غياب الدعم المالي، ومن ثم شرعا سويًا في تطوير بحث مشترك للوقوف على مسببات التحفيز السلبي لجهاز المناعة، الذي يصاحب استخدام مرسال الحمض النووي الريبي (mRNA) المُصنّع، ومن ثم العمل على معالجة المشكلة.

مثّلت هذه الشراكة رياح الأمل التي جاءت لتحرك الماء الراكد وتعيد الحماس لكاتالين التي انغمست في البحث والتجارب من جديد، وصارت تعمل بشكل يومي حتى في أيام الإجازات وعطلات الأعياد، إلى أن نجحت بالتعاون مع شريكها درو وايزمان في تحديد الأحرف الموجودة في الشفرة الوراثية الخاصة بمرسال الحمض النووي الريبي (mRNA) المُصنّع التي تستثير جهاز المناعة، وتمكنا من استبدالها وتطوير نسخة بديلة قادرة على إنتاج بروتينات تتصدى للفيروسات وتقي من الأمراض.

في العام 2005، نشر العالمان دراسة تثبت وتوثق إنجازهما العلمي، حملت عنوان «دراسة جديدة لجامعة بنسلفانيا تكتشف دورًا جديدًا للحمض النووي الريبي (RNA) في الاستجابة المناعية البشرية.. النتائج قد تؤدي إلى أنواع جديدة من الحمض النووي الريبي (RNA) العلاجية للسرطان والأمراض الوراثية». كما تقدّم كلاهما بطلب لتسجيل براءة اختراع.

تصف كاتالين مشاعرها إزاء هذا الإنجاز في حديث نشرته مجلة «Wired UK» التي تصدر في العاصمة البريطانية لندن، في الـ2 من ديسمبر الجاري، وتقول «لقد أدركنا في تلك اللحظة أن ذلك سيكون مهمًا للغاية، ويمكن استخدامه في اللقاحات والعلاجات.»

لكن على عكس توقعات كاتالين، لم تسارع المختبرات والشركات إلى الاستفادة من هذه التقنية في صناعة اللقاحات والأدوية، وحتى جامعة بنسلفانيا لم تعترف بإنجازها ورفضت إعادتها إلى منصبها الذي سبق أن أبعدتها عنه في العام 1995.

ولا مناص من التمييز على أساس الجنس

كان ولا يزال القطاع العلمي واحدًا من أبرز المجالات الخاضعة للهيمنة الذكورية، إذ تظل فرص الرجال في الحصول على وظائف وترقيات فيه أعلى كثيرًا من النساء. وفي مجال البحث العلمي تبدو الفجوة بين الجنسين واسعة للغاية، إذ تكشف بيانات لمعهد برشلونة للصحة العالمية (IS Global) أن النسـاء يُمثّلن نحو 28 في المئة فقط من الباحثين حول العالم.

في ضوء ذلك، تصطدم النساء المشتغلات بالبحث العلمي بعراقيل لا فكاك منها، في ظل تصوّر الرجال المسيطرين على هذا المجال، بأن كل امرأة تدخل إليه تأخذ مكانًا مستحقًا لرجل آخر. وقد عانت كاتالين من هذا خلال مسيرتها؛ فطالما افترض الطلاب والعاملون بالجامعة أنها تعمل تحت إشراف رجل ما، وحينما صدرت لها ورقة بحثية بالشراكة مع باحثين ذكور، سبق أسماؤهم لقب «الأستاذ – Professor» وجاءت كلمة «السيدة» قبل اسمها، وفي طلب تسجيل براءة الاختراع لاكتشافها المشترك مع درو وايزمان، كُتِب اسمها بعد اسمه رغم أنها صاحبة الجهد الأكبر في البحث النظري والتجارب العملية.

الحلم يتحقق: أطروحة كاتالين تفتح باب النجاة من الجائحة

تلقت كاتالين في العام 2013 عرضًا من شركة بيوأنتك الألمانية المتخصصة في مجال تطوير وتصنيع الأدوية واللقاحات (BioNTech)، حتى تتولى الإشراف على الأبحاث الخاصة بالحمض النووي الريبي (RNA)، وقد حدث ذلك بالتزامن مع رفض جامعة بنسلفانيا قبول طلبها باسترداد رتبتها الأكاديمية التي انتزعوها منها في العام 1995، حتى بعد نجاحها في إثبات الفرضية العلمية التي تبنتها، وكان هذا التعنت كفيلًا بإقناعها بقبول عرض شركة بيوأنتك، وترك العمل في المجال الأكاديمي.

في ذلك الحين، لم تكن الشركة الألمانية ذائعة الصيت، إذ لم يكن قد مر على تأسيسها سوى خمس سنوات، عندما قرر العالمان الألمانيان أوزليم توريشي وأوجور شاهين إنشاء مختبر علمي يختص بتطوير علاجات رائدة لأمراض السرطان، وهما من العلماء القلائل الذين آمنوا بأن اكتشاف كاتالين كاريكو ودرو وايزمان بشأن مرسال الحمض النووي الريبي (mRNA)، من شأنه إحداث طفرة في علاج السرطان، ولذلك طلبا من كالتالين الانضمام إلى فريق العمل.

عقب تفشي فيروس زيكا (Zika) في القارتين الأمريكيتين وبعض المناطق في أفريقيا في العام 2015، وهو فيروس يؤدي إلى الإصابة بالحمى، والطفح الجلدي، والالتهابات، ويسبب تشوهات خلقية للمواليد؛ بدأت كاتالين إلى جانب عدد من العلماء في جامعة بنسلفانيا وشركة بيوأنتك الألمانية، العمل على تطوير لقاح مضادٍ لهذا الفيروس، باستخدام تقنية مرسال الحمض النووي الريبي (mRNA)، وقد أثبت فعالية عند تجربته على الفئران والقرود في المرحلة ما قبل السريرية، بحسب ما نشره الموقع الإلكتروني لدورية «طبيعة – Nature» العلمية البريطانية، بتاريخ الـ2 من فبراير في العام 2017.

ما زال هذا اللقاح التجريبي قيد التطوير، ينتقل من مرحلة إلى أخرى في إطار التجارب السريرية على البشر، وفق الجدول الزمني التقليدي لتصنيع اللقاحات وترخيصها. وبناءً على ذلك، كان يتعين على كاتالين الانتظار لعدة سنوات حتى يتجسد بحثها وتجاربها في لقاح مضاد لفيروس زيكا، إلا أن ظهور فيروس كورونا وتفشيه أرغم شركات الأدوية وتصنيع اللقاحات على الإسراع في تطوير لقاح لمواجهة جائحة لم يشهد لها العالم مثيلًا خلال مئة عام، وكان من بينها – إن لم يكن في مقدمتها – شركة بيوأنتك التي تشغل فيها كاتالين حاليًا منصب نائبة الرئيس. وخلال أقل من عام، استطاعت الشركة بالتعاون مع شركة فايزر الأمريكية، تطوير لقاح بتقنية مرسال الحمض النووي الريبي (mRNA) للوقاية من فيروس كورونا، مسجلًا في المرحلة الثالثة والأخيرة من التجارب السريرية على البشر، فعالية بنسبـة 95 في المئة.

وفي الـ11 من ديسمبر الجاري، اعتمدت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)، اللقاح للاستخدام الطارئ بعد تثبتها من مأمونتيه، ليصبح أول لقاح مُصنّع بتقنية الـحمض النووي الريبي (mRNA)، يحصل على تصريح بالاستخدام ويتلقاه البشر على نطاق واسع.

استخدام هذه التقنية العلمية ونجاحها، كان قبل ثلاثين عامًا مجرد فكرة تجول في خاطر كاتالين ثم صارت حلمها الكبير، واليوم باتت إنجازًا يعوّل عليه مئات الملايين أن يكون طوق النجاة من الكابوس الذي يعيشه العالم منذ عشرة شهور أو أكثر قليلًا.

أوضحت كاتالين في حوار مع الصحافي التلفزيوني كريس كومو، أذيع على قناة «سي أن أن – CNN) الأمريكية، في الـ17 من ديسمبر الجاري، أنها ستحتفل بهذا الإنجاز عندما تنتهي المعاناة الإنسانية (الناجمة عن فيروس كورونا) وينقضي هذا الوقت العصيب، معربةً عن أملها أن يتحقق ذلك في الصيف القادم، وقالت «عندما ننسى الفيروس واللقاح، سأحتفل حقًا.»

يرجح كثير من العلماء ووسائل الإعلام أن تكون كاتالين كاريكو بين الحاصلين على جائزة نوبل العام المقبل، وإذا حدث ذلك ستتحقق أمنية والدتها التي كانت من الداعمين القليلين لها وأكثرهم إيمانًا بها، فقد ظلت لسنوات تتابع بحرص إعلان الفائزات والفائزين بهذه الجائزة على أمل أن تجد اسم ابنتها بينهم.