يقترب هذا العام من نهايته، بعد أن خيمت على أيامه العزلة، وساد فيه الخوف، وتصدّر الموت أخبـاره اليومية، وسيطرت عليه الكآبة بعد أن غابت مصادر البهجة. لكن نهاية هذا العام تأتي حاملةً معها بوادر أمل في عودة الحيـاة إلى طبيعتها خلال العام المقبل، بعد أن اضطر الجميع خلال الأشهر العشرة الماضية إلى تغيير حياته تغييرًا جذريًا إثر أزمة فيروس كورونا التي أدت إلى انتكاسات وإحباطات كبرى، خاصة للنساء اللاتي وجدن أنفسهن في مواجهة ضربات ولكمات من اتجاهات عديدة عمّقت معاناتهن مع التمييز والقهر، بعد أن زادت عليهن أعباء الرعاية غير مدفوعة الأجر داخل المنازل التي أضحت بيئة خصبة للعنف ضدهن في ضوء إجراءات الإغلاق العام، وباتت مواردهن المحدودة في الأصل أشد ضآلة مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، وتأثرت صحتهن النفسية بدرجة كبيرة وفقًا للدراسات الصادرة حديثًا ومنها دراسة لمنظمة كير الدولية (Care International) في شهر سبتمبر الماضي، التي أوضحت نتائجها أنه رغم استحالة أن يكون هناك شخص في مأمن من القلق والتوتر والإرهاق النفسي الناجمين عن الجائحة، فإن النسـاء يبقين أكثر عرضة لهذه الاضطرابات، بما يعادل ثلاثة أضعاف احتمالية تعرّض الرجال لها، وهن الأقرب إلى الإصابة باضطرابات القلق، وفقدان الشهية، والأرق، وعدم القدرة على إتمام المهام اليومية.

ولكن مثلما تقول الحكمة «لكل سحابة قاتمة جانب مشرق»، إذ يتجلى دعم النساء وتضامنهن العفوي فيما بينهن في أوقات الأزمات، وبما هو متاح أمامهن يسعين إلى تخفيف الضغط عنهن، وزيادة الوعي المشترك في مواجهة الهجمات ضدهن، وتقوية مناعتهن النفسية، حيث يخلقن فضاءاتهن التي يتشاركن عبرها آلامهن ومخاوفهن، ويتبادلن خبراتهن، ويؤازرن بعضهن البعض. ربما يكون الفضاء حمامًا ضيقًا في مقر العمل، أو رصيف في شارع جانبي، أو منضدة صغيرة في أحد المقاهي. وفي خضم الأزمة التي عصفت بالعالم ومع تزايد الحاجة إلى التباعد الجسدي، جعلت النســاء من الشبكة العنكبوتية فضاءً للتضامن والدعم يتجاوز المسافات وفقدان القدرة على التواصل الجسدي. وبالنسبـة إلى بعض النساء، تمثل شبكة الدعم والتضامن التي نسجن خيوطها في الفضاء الإلكتروني، أحد الأشياء التي يشعرن تجاهها بامتنان عميق مع نهاية هذا العام القاسي، وأخريـات يرينها الشيء الوحيد الذي يشعرن نحوه بالامتنان في عام أقل ما يوصف به أنه «عام عسيــر جدًا».

قبل أيام من نهاية العام 2020، طلبنا من ثلاث نســاء من فئات عمرية مختلفة، أن يشاركن بخواطرهن حول «العام 2020»، و«الجائحة»، و«الشعور بالامتنان»، و«الدعم المعنوي»، و«التضامن النسوي والأختية»، وهذا ما وصل إلينا منهن:

**ملحوظة – وصلتنا الخواطر بالعامية المصرية، فأعدنا صياغتها باللغة العربية الفصحى، وحصلنا من صاحباتها على موافقة بنشرها على هذا النحو:

ياسمين – 26 عامـــًا

أشعر بالامتنان تجاه الدعم الذي أحاطتني به صديقاتي في القاهرة، فأنا من المستقلات عن أسرهن الموجودة في محافظات أخرى، وأقيم في العاصمة لظروف العمل بشكل أساسي، وفي أوج الموجة الأولى للجائحة، أرغمتني ظروف العمل أيضًا على البقاء بعيدًا عن أسرتي، فلم يتسن لي الانقطاع عنه لفترة أو مواصلته من المنزل. ونتيجة الخروج شبه اليومي واستقلال وسائل المواصلات العامة، نال مني فيروس كورونا في شهر مايو الماضي، وحينها فقط وافقت إدارة العمل على منحي إجازة، فكانت أسوأ إجازة في حياتي على الإطلاق.

فضّلت المكوث بمفردي في القاهرة على العودة إلى أسرتي والتسبب في إصابة أحد أفرادها، خاصة أن والديّ وجدي الذي يعيش معنا، هم جميعًا من أصحاب الأمراض المزمنة وإصابة أحدهم قد تقود إلى عواقب كارثية. وعلى الرغم من أن قراري حماهم بالتأكيد من العدوى، فإن قضاء تلك الأيام وحدي من دون حتى أن أخبرهم بمرضي، كان أشبه بالدخول إلى غرفة مظلمة، لا يوجد بها منفذ للضوء أو الهواء، وما من شخص قريب يمكنه مساعدتي بأي شكل.

كنت أشعر بإرهاق شديد، وآلام في كل أنحاء جسدي تقريبًا، وثقل لا يمكن وصفه، وكأن حجرًا عظيمًا يجثم على صدري، وكلما استلقيت على الفراش تملكني شعور بأنني سأموت عليه. لكن كل ذلك هوّنه ما فعلته معي صديقتان مستقلتان أيضًا في القاهرة، فبعد أن أخبرتهما بإصابتي بفيروس كورونا، سارعت إحداهما بالمجيء إلي، وفوجئت بها تهاتفني وهي تقف أمام العقار الذي أسكن به، لتخبرني أنها اشترت لي سلة من الخوص مربوطة بحبل طويل، ووضعتها أمام باب شقتي، لتكون الوسيلة التي آخذ بها ما ستجلبه لي من احتياجات خلال أيام عزلتي.

صارت تأتيني كل يوم بوجبة طعام وبعض الحلوي والعصائر، وكنت أسقِطُ من الشرفة السلة ممسكة بالحبل المربوط بها حتى تضع لي ما أحضرته، واستمر ذلك حتى شفيت تمامًا بعد نحو أسبوعين، لم تنقطع خلالهما عن القيام بهذه الزيارة اليومية التي كان يسبقها ويتبعها سؤالها المتواصل عن صحتي، وحالتي، واحتياجاتي، عبر تطبيق واتساب (Whatsapp).

أما صديقتي الثانية صارت تتابع معي يوميًا مدى التزامي بجرعات الأدوية والعقاقير، وعندما تحسنت حالتي بعض الشيء أصبحنا نتحدث يوميًا عبر مكالمات الفيديو، لعل ذلك يبدد وحشة العزلة، وفي كل صباح كانت ترسل لي قائمة بمجموعة من الأغاني حتى أبدأ يومي بسماعها، بهدف تخفيف القلق وتحسين المزاج السيء المصاحبين للمرض.

كان الخوف يزيد في ساعات الليل المتأخرة. كنت أشعر بأن الموت يهرول تجاهي، ولا يمكنني الاتصال هاتفيًا بأي أحد ليصرفني عن مخاوفي، فكنت ألجأ إلى كتابة بعض الأفكار المشوشة والكلمات غير المرتبة وأرسلها إلى أي منهما عبر تطبيق واتساب، وفي كل مرة كنت أجد إحداهما استيقظت من نومها لتسمعني وأنا أتفوه بكلام غير ذي معنى، وفي كل مرة تصغي إلي بعناية، وتقترح علي ما قد يسكن توتري، وإذا بكيت لا تتعامل مع فعلي باستخفاف أو تجعلني أشعر بالخجل من نفسي.

أنا ممتنة لهما لأنهما قدما لي كل الدعم الممكن في فترة عصيبة، وفي وقت كان الخوف يطاردهما مثلي، أشعر بالامتنان للتفهم والدعم والمساندة التي وجدتها منهما. وهذه ليست المرة الأولى التي يحيطني فيها الدعم من نساء لا تجمعني بهن علاقات طويلة العمر، أو صلات قرابة، أو اتفاق في شتى الأمور، بل هذا ما عرفته واعتدت عليه منذ أن بدأت رحلة استقلالي.

عندما قررت الاستقلال عن أسرتي، ساندتني صديقة عايشت المعاناة ذاتها مع أسرتها، وحينما امتنعت المؤسسة التي كنت أعمل بها في السابق عن تجديد تعاقدها معي، وكدت أعود إلى أسرتي وأفقد كل ما جنيته بعد استقلالي، ساعدتني شريكاتي في السكن على تسديد الإيجار وقضاء احتياجاتي حتى حصلت على وظيفة أخرى بعد شهرين، ولمّا تعرّضت للتحرش الجنسي والتهديد من قبل رجل قادتني ظروف العمل إلى معرفته، كانت إحدى زميلات العمل هي مصدر الدعم الأكبر في تجاوز الصدمة والألم النفسي.

لينـــا – 32 عامــًا (اسم مستعار)

أشعر بالامتنان تجاه التضامن النسوي الذي تجلى في أعظم صوره مع تتابع شهادات الناجيات من العنف الجنسي خلال الشهور الماضية، وأشعر بالامتنان تجاه كل ناجية تغلبت على الألم والخوف وأفصحت بشجاعة عن ما تعرّضت له. بفضل هؤلاء الناجيات سقط العديد من المعتدين الذي ظلوا لسنوات يحتمون بصور نضالية زائفة أشاعوها عن أنفسهم، وكانوا يتخفوّن وراء شعارات تحررية مكذوبة. كنت أتمنى أن أكون واحدة ممن أرسلن شهاداتهن إلى الصفحات والمدوّنات التي فرضت نفسها كساحة للبوح والتضامن، إلا أنني للأسف لم أجرؤ على القيام بذلك، خوفًا من احتمالية انكشاف هويتي أو مجرد الشك فيها، لأن رد فعل أسرتي لن يكون هينًا، ولا أبالغ إذا قلت أنه قد يصل إلى حد القتل على يد والدي أو أخي.

أنا واحدة ممن تعرّضن للاعتداء الجنسي من أحد هؤلاء الذين انفضح أمرهم في هذا العام، وعند قراءتي لشهادة إحدى الناجيات من جرائمه، فوجئت بتشابهها إلى حد كبير مع قصتي، ولوهلة شعرت أنني التي دونتها، وتجسدت أمام عيني مشاهد العنف والاعتداء الذي تعرضت له قبل سنوات.

لم أكن أود استرجاع هذه الذكريات المؤلمة، ولكن هذه الشهادات وما أحدثته من تضامن نسوي أعاد إلي الشعور بالثقة في النفس، فقد صدقت بلا ذرة شك أنه المعتدي وأنني لست وحدي، وأيقنت أنني ناجية من جريمة ولست مُخطئة وليس هناك ما يدعو إلى الشعور بالذنب أو المسؤولية، وها أنا أراه يسقط وصورته الحقيقية تتبدى بوضوح أمام الجميع.

بالإضافة إلى الناجيات، أنا أيضًا ممتنة بشدة للمدوّنات والصفحات الإلكترونية التي مكّنت النساء من المشاركة بحكاياتهن من دون حاجة إلى التعريف بهويتهن، أو التحدث مباشرة مع شخص يمثل منظمة أو مجموعة ما لتوثيق شهاداتهن وقصصهن، وهي أمور كانت غالبًا ما تدفعهن إلى اختيار الصمت.

حبيبـــة – 43 عامــًا

أشعر بالامتنان تجاه ثلاث نسـاء بالتحديد وتجاه مساندتهن العظيمة لي، لولاهن لكان هذا العام هو الأسوأ في حياتي.

قبل عدة شهور علمت بإصابتي بسرطان الثدي، وكنت مجبرة على التعامل مع الموقف برمته بمفردي، حيث أعيش مع طفلتي البالغة من العمر عشر سنوات وحدنا، بينما يعمل زوجي ويقيم في إحدى الدول الخليجية، وتعيش شقيقتي مع أسرتها في الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، وفي ذلك الوقت لم يستطع كلاهما القدوم إلى مصر بسبب إجراءات منع السفر ووقف حركة الطيران.

أنا لست شخصية اجتماعية بطبعي ولذلك لم يكن لدي صداقات قوية في أي وقت، وبعد أن أنجبت ابنتي صارت هي محور اهتمامي، وبسببها توطدت علاقتي نوعًا ما بثلاث من أمهات زملائها في المدرسة، وصرنا نلتقي أسبوعيًا في أحد المطاعم أو الكافيهات نتسامر ونتحدث عن الأطفال ومشاكلهم، وعن المدرسة والتمارين الرياضية، وغيره من أمور تخصهم، وبعد أن ألقت الجائحة بظلالها نقلنا اللقاء الأسبوعي إلى تطبيق زووم (Zoom) لنحافظ على عادتنا.

بعد أن علمت بمرضي حاولت أن أخفي الأمر عليهن إلا أنني فشلت في ذلك، فحينما سألتني إحداهن خلال أحد اللقاءات «إيه الأخبار عندك؟ فيه أي جديد؟»، أجبت مباشرة بالقول «أنا الحمد لله.. بس جديدي مش أحسن حاجة لأن طلع عندي ورم.. سرطان»، ثم صمت وحبست دموعي، فقطعت إحداهن صمتي وقالت بحماس «بصي يا حبيبة قبل أي تفاصيل، اطمني ما تخافيش، كله هيبقى كويس»، وكانت هذه الجملة هي البداية.

هؤلاء النساء اللاتي بدأت علاقتي بهن قبل عامين فقط، كانوا أحرص على التواصل معي وعلى دعمي نفسيًا أكثر من أقاربي وأكثر من زوجي نفسه، الكل تذرع بالجائحة إلا هن. في يوم العملية الجراحية رافقتني اثنتان منهما، والأخيرة أخذت ابنتي إلى بيتها لتقضي معها بضعة أيام، لحين استقرار وضعي الصحي وعودتي إلى المنزل، وكن معي خطوة بخطوة في المراحل التالية من العلاج، وحتى بعد عودة زوجي لم يتوقفن عن مساندتي. لقد كن وما زلن مصدر دعم معنوي أنا في أشد الحاجة إليه.

أعتقد أننا جميعًا سمعنا أن الصداقات الحقيقية والمخلصة بين النسـاء مستحيلة، بزعم أنهن يغرن من بعضهن البعض، ويحقدن على بعضهن البعض، هذا ما يريد الرجال أن يقنعونا به. أما الحقيقة الأكيدة هي أن النســاء مصدر الدعم الأصدق في حياة بعضهن البعض، وهذا الدعم منحني بشكل شخصي القوة، والثقة، والشعور بالاطمئنان، وهو وسيلتي الآن للتعافي المعنوي قبل الجسدي. وأنا أعلم أن عشرات الملايين من النساء يشعرن بما أشعر به بفضل نساء أخريات في حيواتهن.