قبل أكثر من مئة عام، خرج إلى النور أول مقترح لإنشاء محكمة دولية لمعاقبة مرتكبي جرائم الحرب، بعد أن صاغه الحقوقي السويسري غوستاف موانييه، أحد مؤسسي اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وكان يتضمن 10 مواد تحدد شكل وآليات تأسيس محكمة دولية تختص بالتحقيق وإصدار الأحكام في الجرائم التي تخالف بنود «اتفاقية جنيف الأولى» الصادرة في العام 1864، والرامية إلى حماية الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية المسلحة، وهم: المدنيون، ومتطوعو المجموعات الطبية، ومنظمات الإغاثة الإنسانية. لكن هذا المقترح لم يلق استجابة من أي طرف في ذلك الوقت.

عاد إلى الواجهة النقاش حول ضرورة تأسيس محكمة جنائية دولية، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في العام 1918، ثم بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة في العام 1945، إلا أن الجدل بشأن هذه المحكمة وأهميتها لم يؤد إلى مشروع جاد إلا في العام 1992، عندما طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة من لجنة القانون الدولي أن تضطلع بوضع مشروع نظام أساسي لمحكمة جنائية دولية.

في العام التالي، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، القرار رقم (808) الذي وضع أسس إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، بغية مقاضاة الأشخاص المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي.

الاعتراف دوليًا بأن العنف الجنسي خلال النزاعات «جريمة حرب»

في العام 1998، عقدت الأمم المتحدة اجتماعًا دبلوماسيًا للمفوضين معني بإنشاء محكمة جنائية دولية، استضافته منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (FAO) في مقرها الرئيس بمدينة روما الإيطالية، وقد تم اعتماد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في ختام المؤتمر في الـ17 من يوليو في العام 1998، وعُرِف باسم «نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية»، ودخل حيز التنفيذ في يوليو من العام 2002 بعد مصادقة 60 دولة عليه.

وللمحكمة بموجب نظام روما الأساسي اختصاص النظر في جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان. وقد أدرج النظام جرائم الاغتصاب، والاستعباد الجنسي، والإكراه على البغاء، والحمل القسري، والتعقيم القسري، وأي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة، ضمن الجرائم ضد الإنسانية في المادة رقم (7)، وضمن جرائم الحرب في المادة رقم (8).

وعلى الرغم من شيوع استخدام العنف الجنسي كسلاح بين الأطراف المتناحرة في أوقات الحروب والنزاعات، لم يصدر حكم عن المحكمة الجنائية الدولية، يدين ارتكاب جرائم العنف الجنسي في إطار النزاعات والصراعات المسلحة، باعتبارها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إلا في الـ8 من يوليو في العام 2019، حينما أدانت المحكمة بوسكو نتاغاندا قائد العمليات السابق في ميليشيا «الاتحاد الوطني للدفاع عن الشعب» المتمردة في الكونغو، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كانت قد وقعت بين العامين 2002 و2003 في مقاطعة إيتوري شمال شرق الكونغو، إبان فترة الصراع المسلح الذي بدأ في العام 1998 واستمر حتى العام 2003.

تنص المادة رقم (25) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن «يُسأل الشخص جنائيًا ويكون عرضةً للعقاب عن أية جريمة تدخل في اختصاص المحكمة، في حال قيام هذا الشخص بارتكاب هذه الجريمة سواء بصفته الفردية أو بالاشتراك مع آخر أو عن طريق شخص آخر، بغض النظر عن ما إذا كان ذلك الآخر مسؤولًا جنائيًا، وفي حال أمر هذا الشخص أو أغرى أو حث على ارتكاب جريمة وقعت بالفعل أو شرع فيها»، واستنادًا إلى هذا النص حوكِم نتاغاندا وأدانته المحكمة بارتكاب جرائم قتل، وشروع في قتل، واغتصاب، واستعباد جنسي، ومهاجمة مدنيات ومدنيين وتشريدهم، وتجنيد أطفال تحت سن 15 عامًا، وقضت في حكمها الابتدائي بسجنه لمدة 30 عامًا، ثم أيدت الحكم بعد الاستئناف عليه في الـ7 من نوفمبر في العام 2019.

وقد ذكرت المحكمة في حيثيات حكمها أن نتاغاندا قصد عمدًا أن يتعرض المدنيون للهجوم والقتل، وأن يتم الاستيلاء على ممتلكاتهم وتدميرها، وأن يتعرضوا للاغتصاب، ويخضعون للاستعباد الجنسي، فضلًا عن تشريدهم قسريـًا.

كانت هذه هي المرة الأولى التي تدين فيها المحكمة الجنائية الدولية الموجودة بمدينة لاهاي في هولندا، قائدًا عسكريًا بارتكاب جرائم عنف جنسي سواء بنفسه أو على أيدي قواته، والمرة الأولى التي تدين فيها المحكمة شخصًا بتهمة الاستعباد الجنسي، وبعد تأييد الحكم أمام دائرة الاستئناف بالمحكمة، أضحت هذه القضية أول إدانة نهائية في المحكمة الجنائية الدولية ضد جرائم العنف الجنسي.

خطوة كبيــــــــرة.. ولكن وحدها لا تكفي

لا يمكن التشكيك في الأهمية الكبرى لمعاقبة مرتكبي جرائم العنف الجنسي خلال النزاعات المسلحة، إلا أن الافتقار إلى أدوات ووسائل لحماية النساء والأطفال من هذه الجرائم، ومعضلة طول أمد التقاضي أمام المحكمة الجنائية الدولية، يعيقان تغيير الواقع. وفي الكونغو نفسها ومقاطعة إيتوري على وجه الخصوص، لا يزال الوضع مخيفًا حتى الآن، فالقتال لم يتوقف، والعنف مستمر، واستهداف النساء والأطفال لم ينتهِ، وقد كشفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) في شهر يوليو الماضي، عن تعرّض الأطفال في المقاطعة للعنف المرتبط بالصراع المسلح الذي يعيد إنتاج نفسه بشكل متواصل، وأوضحت المنظمة الدولية أن هناك ما يقرب من 200 طفل قضوا خلال 6 أشهر فقط، بالتوازي مع زيادة جرائم العنف الجنسي، والنهب والتدمير للمرافق الصحية.

ملاحظة على الهامش: يبلغ عدد أعضاء المحكمة الجنائية الدولية 18 قاضية وقاضيًا، بينهم 6 قاضيات، أي أن النساء يمثلن ثلث الهيكل القضائي للمحكمة فقط، بينما ينص نظام روما الأساسي في المادة رقم (36) الخاصة بـمؤهلات القضاة وترشيحهم وانتخابهم، على أن تراعي الدول الأطراف في إطار عضوية المحكمة الحاجة إلى تمثيل عادل للإناث والذكور القضاة.