على الرغم من أن ظاهرة فرض الحجاب قسريًا على الفتيات في المدارس، صارت موضع جدل ونقاش خلال السنوات العشر الأخيرة، فإنها في واقع الأمر ليست حديثة العهد، إذ تعود جذورها إلى بداية الألفية الثالثة، بالتزامن مع صعود ظاهرة «الدعاة الجدد» الذين لعبوا دورًا محوريًا في خلق نمط للتدين، ونشره على أوسع نطاق داخل مصر وخارجها؛ نمط استطاعوا من خلاله أن يجعلوا المرأة التي تغطي جسدها بالكامل، المثال الذي يجب أن تقتدي به كل فتاة تعتنق الديانة الإسلامية، وإلا باتت في مهب العنف اللفظي والجسدي، وقد تتعرض للتشكيك في عقيدتها، وربما يلاحقها توبيخ وزجر أفراد متأثرين بنموذج «شرطة الأخلاق» في إيران.

في ضوء هذه الحالة، صار من الشائع خلال السنوات الأولى من الألفية الثالثة أن تسارع الفتيات إلى ارتداء الحجاب بعد الاستماع إلى أحاديث عمرو خالد (المشحونة بالبكاء)، ومصطفى حسني، ومعز مسعود، التي أضحت تحدث ضجيجًا تتردد أصداؤه في كل أرجاء مصر. وبعد أن يرتدينه يتسلل إليهن شعور بأن هذا الغطاء الذي التف حول رؤوسهن منحهن أفضلية عن غيرهن ممن لم يضعنه، فقد أقنعتهن أحاديث الدعاة بأن «تدينهن» يكتمل به وبه يضمنّ «صك الأخلاق الحميدة».

كثير من هؤلاء الفتيات كن يتجهن بعد ارتدائهن للحجاب إلى لعب دور «الداعيات المبشرات بالحجاب»، ينصحن زميلاتهن في المدارس بارتدائه ويحدثنهن عن أفضاله في الدنيا والآخرة (معظم الفتيات في تلك الفترة أعيدت على مسامعهن جملة: النساء اللواتي لا يغطين شعورهن من الرجال الأجانب سيُعلّقن منها في النار، استنادًا إلى حديث نبوي أقرت دار الإفتاء المصرية لاحقًا بأنه مكذوب)، كما لعبت المعلمات في المدارس الدور ذاته، بعد أن جاء هذا الخطاب الدعوي ليستدعي الأفكار المحافظة والفكر السلفي المضمر في نفوس كثيرين في المجتمع.

بدأت إعادة تعميم الحجاب في مصر عبر الحث والترغيب الودود، وكانت المدارس مرتعًا لذلك. ولكن بعد أن زادت ثقافة الحجاب توغلًا في المجتمع المصري، وأصبح ارتداء الفتيات له بمجرد أن تطأ أقدامهن عتبة المراهقة، أمرًا عاديًا وطبيعيًا في نظر القاعدة العريضة، تحوّل الترغيب إلى ترهيب وزادت الضغوط المجتمعية على من لا يرتدين الحجاب، إلى أن صار يُفرَض فرضًا بأي وسيلة حتى لو كان من بينها العنف الجسدي، أو المساومة على حقوق أصيلة، أو إلزامه عبر لوائح ونشرات، وقد نالت هذه الممارسات شرعية بسبب القبول المجتمعي للاعتداء على الحرية الشخصية والخرق الأهوج للخصوصية، طالما كان تطبيقًا لـجملة من المصطلحات التي يُحرّم التعليق عليها والنقاش حولها، كالشـرع والفضيلة وفرض الله.

استمر الوضع على هذا النحو إلى أن بدأت تنغصه أصوات متمردة تشق الصمت، متحديةً الإرهاب المجتمعي وانتهاك الحقوق الشخصية باسم الدين والشريعة.

تمرد ينبعث من تحت رماد الصمت

قبل ثمانية أعوام، تقدم والدا طالبتين بمدرسة الحدادين الابتدائية المشتركة في مدينة الأقصر، بشكايات إلى وكيل وزارة التربية والتعليم وإلى النيابة العامة، ضد معلمة أقدمت على قص شعرهما، لأنهما لم يخضعا لإرهابها ويرتديا الحجاب الذي أمرت به جميع الطالبات، محذرةً إياهن من العقاب إذا لم يمتثلن لأمرها.

ثارت ثائرة كثيرين في أعقاب ذيوع أخبار الحادثة، التي حظيت بتغطية واهتمام إعلامي لافت إلى أن تم الإعلان عن إحالة المعلمة للتحقيق. لكن هذه المعلمة أحاطها دعم من بعض متابعي القضية، وأولياء الأمور، وزملائها في المدرسة، وقد علق أحد زملائها في تصريح صحافي إلى موقع سكاي نيوز عربية، منشور بتاريخ 18 أكتوبر 2012، قائلًا «إن كل جريمة الأخت إيمان هو أنها شجعت على الفضيلة ودافعت عن قيم الدين الحنيف.»

في ذلك الوقت، ربط العديد ممن تابعوا الحادثة بين وقوعها ووصول تيار الإسلام السياسي إلى سدة الحكم، وسيطرته على البرلمان والحكومة والرئاسة مجتمعين.

لكن سرعان ما أثبتت الأيام عدم صحة هذه الفرضية، فمع بداية السنة الدراسية (2016/2017) ، فوجئت طالبات مدرسة كفر الأشراف الإعدادية المشتركة في مدينة الزقازيق بإرغامهن على ارتداء الحجاب، ومعاقبة الممتنعات عن وضع غطاء على الرأس، وقد أفادت والدة إحدى الطالبات في تقرير مصوّر عرضه برنامج «العاشرة مساءً» الذي كانت تذيعه قناة دريم الفضائية، بأنها ذهبت لتقديم شكوى لدى إدارة غرب الزقازيق التعليمية، إلا أنها فوجئت بمحررة الشكوى تقول لها باستهزاء «أنتِ مش عايزة بنتك تبقى محترمة ولا إيه؟!»

في التوقيت ذاته وفي المدينة نفسها، وضعت إدارة مدرسة الناصرية الإعدادية المشتركة لافتة تفرض ارتداء الحجاب كجزء من الزي المدرسي، وأجبرت مديرة المدرسة الطالبات على ارتداء «طرحة بيضاء كغطاء للرأس»، وعند امتناع إحداهن عن القيام بذلك، حظرت عليها دخول الفصل وحضور الحصص اليومية، فقررت والدتها لميـاء لطفي التصدي لهذا التعسف، بتقديم شكوى ضد مديرة المدرسة لدى مديرية التربية والتعليم في الشرقية. ونتيجة لذلك تشكّلت لجنة رسمية للتحقيق في الحادثة، خرج عنها قرار يؤكد حق الطالبات في اختيار ارتداء الحجاب من عدمه، وعدم أحقية إدارة المدرسة في إجبارهن على ارتدائه.

ينص القرار الوزاري المنظم للزي المدرسي للطالبات، على ارتداء قميص أبيض، ومريلة أو تنورة من القماش، وفي فصل الشتاء يحق للطالبات ارتداء مريلة أو تنورة من الصوف، وكنزة أو معطف بلون المريلة أو التنورة.

لميـاء التي نجحت في حماية حق ابنتها وصوّن حريتها في الاختيار قبل أربع سنوات، وجدت نفسها أمام المشكلة ذاتها مع ابنتها الصغرى، الطالبة بمدرسة بلبيس الرسمية للغات في محافظة الشرقية، بعد أن صدرت نشرة داخلية مع بداية العام الدراسي الحالي (2020/2021)، تضع الحجاب بين مكونات الزي المدرسي، وأخبرت الأخصائية الاجتماعية الطالبات بأن الحجاب إلزامي داخل المدرسة فقط، وخارجها يحق لمن يردن خلعه القيام بذلك.

رفضت الأم أن ترتدي ابنتها الحجاب قهرًا وأن تتعود النفاق، وبالتالي ذهبت الفتاة إلى مدرستها ملتزمة بالزي المدرسي من دون غطاء للرأس، فما كان من الأخصائية الاجتماعية إلا أن هددتها بالحرمان من دخول المدرسة، إذا لم تنصاع لقرارها وتلتزم بالتعليمات.

لكن لميـاء أصرت مجددًا على الدفاع عن حق ابنتها وحمايتها من هذا الإرهاب، فتقدمت بشكوى إلى مدير المدرسة، الذي اعتذر عما حدث مؤكدًا على حق أي طالبة في الحضور إلى المدرسة من دون غطاء للرأس لأنه ليس جزءا من الزي المدرسي، كما شكل وكيل أول وزارة التربية والتعليم بالشرقية لجنة للتحقيق في الحادثة، مشددًا على أن الطالبات غير مجبرات على ارتدائه.

في غضون ذلك، شنت الأخصائية الاجتماعية ومعلمات أخريات وبعض أولياء الأمور هجومًا لفظيًا حادًا على الأم عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، مشككين في عقيدتها وأخلاقها، وفي حديث للمياء لطفي مع موقع بي بي سي عربية (BBC Arabic)، منشور بتاريخ 23 أكتوبر 2020، كشفت أنها تلقت تهديدات من بعض أولياء الأمور في المدرسة.

استدعت هذه القصـة قصصًا مماثلة تسكـن ذاكرة فتيات أخريات، وثقها بعضهن عبر وسم #الإجبار_على_الحجاب_في_المدارس الذي تداوله مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن ذيلت به الأم منشورها الأول عن الحادثة. ورغم هذا السيل المتدفق من التجارب والحوادث سواء التي تكشفها شهادات الفتيات أو تسجلها شكاوى أولياء الأمور أو يناقشها الإعلام، لا يبدو طارق شوقي وزير التربية والتعليم، مقتنعًا بوجود ظاهرة متفشية ومنظومة فكرية متشددة تقتضي مواجهة حازمة، إذ وصف الحادثة الأخيرة بـأنها «قصة فردية»، وأضاف في مداخلة هاتفية لبرنامج «مساء دي أم سي» المذاع عبر قناة دي أم سي الفضائية (DMC)، في حلقة يوم الـ21 من أكتوبر الجاري، قائلًا إن القصة مهمة ولكن لا تستحق هذا الزخم، ولا تحتاج إلى وسوم (استخدم تعبير: هاشتاجات).

حتى لا يظل الانتصار «صغيــرًا» و«فرديــًا»

تؤكد الحوادث سالفة الذكر أن التعامل مع حوادث فرض الحجاب على الفتيات في المدارس، كل حادثة على حدة وكأنها لا تعكس نهجًا تتبعه كثير من المدارس الحكومية تحديدًا، لن يعالج الأزمة وستظل هذه الحوادث تعاود الظهور مع بداية كل عام دراسي جديد.

التعاطي مع هذه الحوادث باعتبارها حوادث فردية أزمة في حد ذاته، لأنها ليست كذلك بل هي وميض الجمر الكامن تحت الرماد، وهي أمثلة ملموسة لظاهرة اكتنفها الصمت طويلًا، فهؤلاء الذين فرضوا الحجاب على طالبات المدارس التي أشرنا إليها، كانوا يمارسون إرهابهم بأريحية تامة، قبل أن يتصدى لهم الأمهات والآباء والبنات أنفسهن، وهناك عشرات الفتيات اللاتي رضخن ويرضخن، خوفًا منهم، أو خشية الإساءة والإيذاء، أو لأن ذويهن كانوا شركاء في فرضه قهرًا عليهن.

تؤكد الحكومة الحالية أن تطوير منظومة التعليم بالكامل يأتي على رأس أولوياتها، وتحت هذه المظلة أضافت وزارة التربية والتعليم مادة بعنوان  «القيم واحترام الآخر» إلى المواد التي يدرسها طلاب الصف الثالث الابتدائي، ومن المزمع أن تضيفها إلى مواد عدد من الصفوف الأخرى، إلا أن التغيير والتطوير لا يمكنهما أن يتحققا ما دامت الممارسات اليومية في العديد من المدارس تتعارض مع ما تتضمنه الكتب والمناهج الدراسية، ولذلك يجدر بالوزارة أن توفر مناخًا آمنًا وخاليًا من الإرهاب الذي يستهدف بعض الطالبات، وأن تحميهن من أي تهديد أو وصم أخلاقي أو تنمر قد يتعرضن له، نتيجة إدراجهن في خانة «الآخر المفروض»، وقد يكون أحد السبل لتحقيق ذلك هو إصدار قرار يقر عقوبات صارمة على كل من يفرض قسـرًا  أي شكل من أشكال «أغطية الرأس» على الفتيات في المدارس، سواء عبر نشرات داخلية أو تعليمات مباشرة.

من المفترض أن تنهض المؤسسات الدينية الرسمية بمسؤوليتها في هذا الصدد بما يتسق مع الدستور والقانون والحقوق الفردية والشخصية، وأن تحرص على الخروج برأي موحد وواضح لا لبس فيه يرفض هذه الانتهاكات، ولا يشجع على ممارسة أفعال أشبه بما تقوم به جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يقوّي شوكة مرتكبيها. لكن ذلك لم يحدث حتى الآن، بل إن الأشياء تمضي في الاتجاه المعاكس، ويمكننا الاستدلال على ذلك، بتصريحات لعبد الحميد الأطرش رئيس لجنة الفتوى الأسبق بدار الإفتاء، نشرتها جريدة الوطن المصرية، بتاريخ 22 أكتوبر 2020، كان قد أشار فيها إلى أن فرض الحجاب في المدارس أمر جيد على حد قوله، مؤكدًا أن إجبار الفتاة على الحجاب جائز إذا وصلت إلى سن البلوغ.