ليتني لم أكن أنثى: كيف يدفع المجتمع الأبوي الفتيات والنساء إلى الشعور بأنهن نقمة؟
كتبت: آلاء حسن
بمجرد أن تولد الأنثى يتم إخضاعها لعملية تحوّل تدريجي من إنسان إلى أداة، إذ يصبح شغل أسرتها الشاغل هو إحكام السيطرة عليها، وتكون التربية والتنشئة أشبه بتطويع وبرمجة الإنسان الآلي، لتغدو المرأة قادرة على الاستجابة للبيئة المحيطة والتعامل معها ملتزمةً بالقواعد والحدود المرسومة لها، بالإضافة إلى تأدية المهام التي وضعها المجتمع لها ليحقق أهدافه ومصالحه الكبرى، وعلى رأسها الحفاظ على النظام الأبوي وحماية التفوق الذكوري.
هذا النسق الاجتماعي الذي يكرس لدونية الأنثى واستبعادها يمر من جيل إلى جيل مستقرًا، ومحركه الأصلي هو الخوف من النساء وأجسادهن على وجه الخصوص. هذا الخوف تتشربه الأسرة فتلقي بذوره داخل الفتيات منذ الصغر، ليكبر معهن وينمو، ويصير هو الحاكم لتصرفاتهن وأفعالهن المقصودة والعفوية.
القيود الناتجة عن هذا الخوف تثير بداخل كثير منهن شعور بالغضب من كونهن إناثًا، لأنهن لا يتمتعن بالحرية التي يحظى بها الذكور، ولأن كواهلهن تنوء تحت أثقال لا يتحملها الرجال. وفي كل وقت تقريبًا، يجلب التمرد على هذا الخوف عنفًا ضدهن قد يصل إلى حد القتل، ولذلك أضحى سؤال «لماذا خُلِقتُ أنثى؟» واحدًا من الأسئلة التي غالبًا ما ترد بخاطر الفتيات والنساء في مرحلة ما خلال حياتهن، بالأخص عندما يشعرن بأنهن محاطات بأسوار عالية، وحينما يرين بوضوح السقف الزجاجي الذي يحرمهن من فرص لا حصر لها، وكلما تبدى لهن أن ميزان العدالة يميل لصالح الذكور على حسابهن.
ميرنا (26 عامــًا) سألت نفسها هذا السؤال مرارًا، وبالأخص في صباها بعد أن بدأت أسرتها تحرمها من أشياء كثيرة بينما تسمح بها لشقيقها، ومنها اللعب مع الجيران والأقارب الذكور، إذ منعها والداها من ذلك، وفي الوقت ذاته أعطيا لشقيقها الحرية ليلعب مع من يريد من دون قيود حتى لو كان بينهم فتيات، كما حددا لها يومًا واحدًا في الأسبوع للتنزه مع صديقاتها وموعدًا لتعود فيه وإلا منعاها من الخروج من المنزل لفتـرة، وضاعفا مهامها في الأعمال المنزلية. على الجانب الآخر، كان بإمكان شقيقها أن يخرج من المنزل في أي وقت وبشكل شبه يومي، ليس في الإجازات فحسب وإنما خلال فترة الدراسة أيضـًا.
«بعد أن بدأت مراهقتي وانتظمت دورتي الشهرية، زادت كراهيتي لنفسي ولجسدي كأنثى، فقد باتت أمي تحاسبني على كل كلمة وحركة سواء كانت عن عمد أو من دونه، وحينما سألتها لماذا لا تفعل ذلك مع أخي، ردت بحزم: عشان هو ولد وأنتِ بنت، محدش هيقول كلمة عليه لو نزل كل يوم ورجع متأخر، محدش هيشوف حتة باينة من جسمه فيضايقه، محدش هيحاسبه ولا يظن فيه وحش لو ضحك بصوت عالي، لكن أنتِ آه.»
صار لازمًا على ميرنا أن تضم ساقيها أثناء جلوسها وأن لا تلمس يدها ثدييها أو مؤخرتها في أي وقت ولأي سبب في الأماكن العامة، وحرمتها أمها من ركوب العجل بدافع الخوف من فض ما يسمى بغشاء البكارة، وفرضت عليها أن تخفي إفطارها في شهر رمضان خلال فترة الحيض، وفي حال اضطرت أن تأكل يكون ذلك في الخفاء حتى لا يعلم شقيقها بالأمر، ومنعتها من ارتداء الملابس القصيرة في المنزل، طالما كان الأب والأخ متواجدين فيه. كان ذلك يحدث بينما تشاهد ميرنا أخاها يركب الدراجة، ويتعامل بأريحية مع جسده داخل البيت وخارجه، وإذا ألم به مرض أفطر في شهر رمضان دون أن يخفي ذلك عن بقية أفراد المنزل.
«عندما كنت أرى أخي يسبح بحرية في البحر ونحن في المصيف، كنت أغبطه على ذلك وأتمنى لو كنت ذكرًا مثله، وإذا رأيته يهاتف صديقته من دون أن يخفض صوته وينزوي داخل الحمام مثلي، تمنيت لو تبدلت الأدوار وصرت مكانه، وكلما سمعته يقول «أنا هنزل.. أنا مخنوق» من دون أن يعترض والداي بسبب تأخر الوقت، شعرت بالعجز والحسرة فكم من مرة شعرت بأن حوائط المنزل تكاد أن تطبق على أنفاسي، ولم يكن بوسعي الخروج منه، لأنني ممنوعة من التواجد خارج المنزل إلا في أوقات معينة.»
أما ياسميــن (36 عامـــًا) فقد تدفقت إليها وقتما كانت في العاشرة، مشاعر ملتبسة ومختلطة، ما بين خوف من جسدها، ورغبة في التخلص منه واستبداله بجسد ذكر، وتوّجس كبير من أمها.
توّلدت هذه المشاعر عقب اعتداء أمها عليها بطريقة تصفها بالوحشية، عقابًا لها بعد استلقائها على الفراش إلى جانب ابن عمها الذي يكبرها بعام واحد، أثناء مشاهدتهما لفيلم كرتون (سوم متحركة) عبر مشغل شرائط الفيديو، حينما كانت أسرتها في زيارة إلى عمها في منزله.
«بعد عودتنا، فوجئت بها تناديني لأذهب إليها في المطبخ، كانت تقوم بتسخين شيء ما، وطلبت مني الجلوس على الكرسي أمام الطاولة، كانت تصرخ وتصيح غضبًا بسبب ما حدث، وأنا غير قادرة على استيعاب ما تقوله أو فهم سبب انزعاجها، ثم حذرتني بشكل قاطع من اللعب مع أولاد أعمامي الذكور أو الاقتراب منهم، ثم التفتت إلي وفي يدها ملعقة، ثم وضعتها على فخذي، فصرخت من شدة الآلم لسخونتها، إلا أنها لم تكترث لصراخي أو للدموع التي انفجرت في عيني، وقالت لي بحدة إنها ستفعل ذلك مرة أخرى، إذا رأتني ألعب مع صبي أو أجلس بملاصقته.»
ولد داخل ياسمين في ذلك اليوم خوف عميق ومضمر من أمور كثيرة ومن أمها، لدرجة جعلتها لفترة طويلة بعد هذه الحادثة، تنتفض خوفًا وتتسارع دقات قلبها كلما سمعت أمها تناديها.
أدت هذه الحادثة إلى تعمُّق خوف ياسميــن من جسدها الذي جلب لها هذا الآلم والجرح، ولسنوات عديدة بعدها، كان أي تلامس حتى لو عن طريق الخطأ مع الذكور يصيبها بالارتباك والقلق.
تقول ياسمين إنها تمنت في ذلك اليوم لو كانت خُلِقَت ذكرًا مثل ابن عمها الذي لم يطاله عقاب، ولم ير أحد حتى أمها أن ما فعله خطأ رغم أن الفعل واحد ومشترك.
تُصدّق ياسميـن الآن أن الذكر في هذا العالم نادرًا ما يُعاقَب إذا أخطأ، لأن ذكورته تشفع له، أما الأنثى لا يشفع لها شيء وستُعاقب حتمًا ومرارًا حتى لو لم تُخطِئ، وحتى إذا كانت هي من ارتُكِب بحقه الخطأ.
لا تزال عالقة بذاكرة سـالي (33 عامًا) واقعة تعود أحداثها إلى اثنين وعشرين عامًا مضت، عندما كانت تمر بالتغيرات البيولوجية الطبيعية في سن المراهقة، ومن بينها نمو الثدي، ولم تكن عندئذ قد بدأت ترتدي حمالات الصدر.
«كانت أول حصة ألعاب رياضية في العام الدراسي الجديد، وتوّجهت بتلقائية إلى الملعب الذي كان يتم تقسيمه إلى قسمين، أحدهما للذكور والآخر للإناث، وانضممت إلى زميلاتي في تمارين الإحماء فبدأ ثدياي يهتزان. لاحظت وقتها أن بعض زميلاتي يتغامزن، ثم همست إلي إحداهن بأن بعض الأولاد في الجانب الآخر يتابعونني ويتلامزون، فإذا بالمعلمة تتقدم باتجاهي وتأمرني بترك الحصة، وتخبرني بأنني ممنوعة من المشاركة في حصص التربية الرياضية، حتى ارتدي حمالة صدر.»
خرجت سالي من الملعب وقد غمرها شعور بالخزي والإذلال على حد وصفها، ولم تجد أمامها سوى أن تصعد إلى فصلها لتتخفى بعيدًا عن النظرات التي تخترق جسدها، «جلستُ وحيدة أمام النافذة، أشاهد الذكور يلعبون بحرية وانطلاق، وقد اجتاحني شعور بالاشمئزاز من نفسي وتمنيت لو لم أكن خُلِقتُ أنثى، وسألت نفسي: هل أحد من هؤلاء الذكور يمثل جسده عبئًا عليه، أو يشعر بأنه عيب ونقيصة مثلما أشعر تجاه جسدي في هذه اللحظة؟، وكنت على يقين من أن الإجابة: بالطبع لا.»
«إن فقدان المرء ثقته في جسده، يعني فقدانه الثقة بنفسه»
سيمون دي بوفوار
يساور سالي كثيـرًا شعور بأنها نقمة في هذا العالم، وتُرجِع ذلك إلى الثقافة الشائعة التي تجعلها وبنات جنسها محاصرات بقائمة لا تنتهي من الممنوعات.
«بالإضافة إلى كل ما هو ممنوع ومُحرّم، هناك الشعور بالخوف المُقدّر لنا العيش به إلى نهاية العمر، الخوف الذي يجبر المرأة على قضاء فترة أطول من الرجل كل صباح لتختار الملابس التي تظن أنها ستحميها قدر المستطاع من التحرش، والخوف الذي ينتابها إذا جلس إلى جوارها رجل في وسيلة المواصلات، والخوف الذي يتملكها عندما تسير في شارع هادئ وبالقرب منها عدد من الذكور حتى إذا كانوا صبية صغار، كل هذا الخوف لا يعرفه الرجل بل يكون سببًا فيه. ليته كان ممكنًا أن أعيش يومًا واحدًا مثل هؤلاء الرجال، لا أخشى كل صغيرة منذ بداية إلى اليوم إلى نهايته.»
من جانبها، تعتقد إيمــان (27 عامــًا) أنها خسرت وما زالت أشياء كثيرة لأنها أنثى، سواء نتيجة عوامل خارجية أو لأنها مُكرهة على تضييعها، وكثيرًا ما تتمنى لو كان لها الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها زوجها.
وجدت إيمان نفسها مضطرة للانتقال إلى بلد آخر، والرحيل عن عملها، وأصدقائها، وعائلتها، عقب ترقي زوجها في عمله بأحد الفنادق، حيث تقرر نقله إلى فرعه الموجود في مدينة دبي، ولم يكن يحق لها الاعتراض لأن الطبيعي في عُرِف مجتمعها أن تكون «الزوجة في ظهر زوجها»، على الرغم من أنها قبل شهور فاتحته في فرصة سفر أمامها لأداء مهمة عمل ستستمر لعدة أشهر، وكان جوابه قاطعًا وهو الرفض لأن «بيتها له حق عليها وله الأولوية».
«لقد صرتُ على يقين بأن الرجل في هذا المجتمع قلما يخسر حتى بعد الزواج، بينما تخسر المرأة قبل الزواج وبعده. تخسر منذ أن تولد إلى أن تموت، فقد تعوّدنا على التنازل والتضحية والتغاضي عن أحلامنا وطموحاتنا من أجل الأسرة أو التقاليد، وإذا تمسكنا بها صرنا في عيون الناس أنانيات. أما الرجل فالحلم حق أصيل له وحرصه على تحقيق طموحه ميزة حتى إن كان بذلك ينتزع أحلام امرأة ما في حياته.»
«عندما يأتي اليوم الذي يصبح فيه بإمكان المرأة أن تحب ليس بضعف ولكن بقوة، وأن لا تهرب من ذاتها بل تبحث عنها، وأن لا تُحقّر من نفسها بل تعزز منها. في ذلك اليوم، سيصبح الحب بالنسبة لها مثل الرجل مصدر حياة وليس مصدر خطر مميت.»
سيمون دي بوفوار