مساء السبت الموافق الـ4 من يوليو الجاري، كان الموضوع الرئيس على مائدة البرامج الحوارية المصرية، هو إلقاء القبض على أحمد بسام زكي، المتهم بالاعتداء جنسيًا على عشرات الفتيات، بعد ثلاثة أيام من تدشين صفحة على موقع انستغرام تحمل اسم «Assault Police»، نشرت من خلالها الناجيات من اعتداءاته الجنسية شهاداتهن عن جرائمه التي تباينت بين تحرش جنسي، وشروع في اغتصاب، واغتصاب. 

وقد جاء ذلك بعد عامين على نشر نحو 50 فتاة شهاداتهن عن بعض جرائمه، عبر مجموعة على موقع فيسبوك مخصصة لطالبات وطلاب الجامعة الأمريكية، التي كان يدرس بها قبل أن ينتقل للدراسة بالجامعة الأوروبية (EU Business School) في إسبانيا، والتي اتخذت قرارًا بفصله في الـ6 من الشهر الجاري، بعد تأكدها من صحة شكاوى وردت إليها من طالبات، مدعومةً بأدلة تثبت تحرشه بهن إلكترونيًا.

اللافت في التغطية الإعلامية التي صاحبت هذه القضية، خاصة تغطية الإعلام المرئي، هو الإعلان الواضح عن الدعم الكامل للناجيات والرفض القاطع للتذرع بملابسهن أو نمط حياتهن كمبرر لوقوع هذه الجرائم، بالإضافة إلى حثهن على التقدم ببلاغات رسمية ضد المعتدي حتى لا يفلت من العقاب، وهو الموقف الذي بدا متسقًا مع سياق عام مضت تحت مظلته العديد من مؤسسات الدولة، ومنها مؤسسة الأزهر الشريف التي تصدّر غلاف مجلتها الأسبوعية «صوت الأزهر» عبارة «طمنوا بناتكم»، كما أبرزت باقي عناوين الغلاف موقف المؤسسة الرافض لتبرير جرائم الاعتداء الجنسي على النساء أو ربطها بملابسهن، إلى جانب مطالبته بدعم الناجيات وتشجيعهن على التقدم بشكاوى ضد المعتدين. وفي الإطار ذاته، تدخل المجلس القومي للمرأة وهو الآلية الوطنية المعنية بشؤون النساء، عن طريق التقدّم ببلاغ إلى النائب العام، يطالب فيه بالتحقيق في الشهادات المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، لفتيات تعرّضن للاعتداء الجنسي على يد أحمد بسام زكي.

أشعلت هذه القضية غضبًا واسعًا، بدأ موجهًا ضد هذا المغتصب بالتحديد، ثم اتسعت رقعته وصار الاحتجاج ضد المعتدين عمومًا الذين اضطرت الناجيات من جرائمهم إلى التزام الصمت خوفًا منهم ومن ابتزازهم، وخشية ردود أفعال عائلاتهن، وتجنبًا لهجوم المجتمع عليهن.

ومع ذيوع شهادات الناجيات عبر مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الأولى من شهر يوليو الجاري، تصدر وسم #المغتصب_أحمد_بسام_زكي الوسوم الأكثر تداولًا في مصر على موقع تويتر، ليعيد معه إلى القائمة وسمًا ظهر منذ عدة سنوات لفضح المتحرشين ولخلق مساحة من التشارك والتضامن بين الناجيات، وهو #أول_محاولة _تحرش_كان_عمري، ثم أضيف إليهما وسوم أخرى مثل #مش_بس_أحمد_زكي و#افضحوا_المتحرشين و#بداية_ثورة_نسوية، لتكون هذه الوسوم بمثابة قنوات تتدافع عبرها شهادات لناجيات من العنف الجنسي، قررن أن يتخلصن من عبء كتمان الآلم، وإنهاء الاضطرار الجبري إلى الصمت.

تصريح النساء وبوحهن بهذه الجرائم كسيل جارف يسلك مجراه عمدًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فتح الباب للحديث عن تشابه بين ما يجري وحِراك #MeToo الذي انطلق في أكتوبر من العام 2017 في الولايات المتحدة الأمريكية. ويبدو هذا التشبيه منطقيًا إذا انحسرت النظرة إلى #MeToo في مرحلته الأولى، ولكن بالنظر إليه باعتباره حراكًا ضخمًا ما بعده ليس كما كان قبله، فنحن في حاجة إلى إمعان النظر في العديد من الإشكاليات التي قد تحول دون تطور الحِراك الذي نعيشه حاليًا.

تعود جذور وسم #MeToo إلى العام 2006 عندما استخدمته الناشطة الأمريكية تارانا بورك، كمظلة لنشاطها النسوي لدعم الناجيات من جرائم العنف الجنسي وبالأخص الطفلات من ذوات البشرة الملوّنة، إلا أن انتشاره حول العالم وتبلوره في شكل الحِراك المستمر لما يقرب من ثلاث سنوات في الولايات المتحدة، كان على يد الممثلة الأمريكية إليسا ميلانو عندما دعت النساء للتدوين عن جرائم الاعتداء الجنسي التي تعرضن لها من خلال هذا الوسم، في أعقاب انكشاف جرائم الاعتداء الجنسي التي ارتكبها المنتج السينمائي هارفي واينستين ضد عاملات في مجال صناعة الأفلام.

إن صحت المقارنة: علينا أن نتذكر أن #MeToo بدأ بالبوح ولم ينته عنده

البوح بما تعرضت له الناجيات من جرائم العنف الجنسي على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة عبر الوسوم التي تخلق شبكة دعم وتضامن واسعة، بدأ في مصر منذ ما يزيد عن ست سنوات، عندما ظهر لأول مرة وسم #أول_محاولة_تحرش_كان_عمري، بعد وقوع جريمة تحرش جماعي في جامعة القاهرة في شهر مارس من العام 2014، ثم عاد الوسم للبروز في إبريل من العام 2017، وعاد للصعود من جديد بين الوسوم الأكثر تداولًا خلال الأيام الأخيرة.

تتماثل هذه المرحلة مع ما انطلق منه حِراك #MeToo، حيث البوح والتمكين عن طريق التشابك والتضامن الذين تنكسر معهما الأسوار التي تقمع أصوات النساء، قبل أن تتابع مراحل تطوره في الفضاء الإلكتروني وعلى أرض الواقع، فيُسقِط الكثير من المعتدين الذين كانوا يظنون أنهم في أمان أبدي، ويعزز ثقافة حماية النساء من العنف، ويقود إلى استحداث إجراءات وسياسات وتعديل تشريعات محلية (التشريعات الخاصة بكل ولاية).

لقد ساهم حِراك #MeToo بما ضاعفه من قوة لدى الناجيات، في الإطاحة برجال ذي نفوذ في شتى المجالات، مثل المنتج السينمائي هارفي واينستين الذي يعد واحدًا من أكثر الرجال تأثيرًا في عالم هوليوود، والممثل الشهير بيل كوسبي وهما الآن يقبعان في السجن بعد صدور أحكام ضدهما في قضايا حركتها ناجيات من اعتداءتهما الجنسية، وأسقط الحِراك أيضًا شارلي روز وبيل أوريلي وهما من أشهر مقدمي البرامج في الولايات المتحدة، إذ فصلتهما المؤسستان اللتان كانا يعملان بهما ولم يعد بوسعهما العودة إلى العمل الإعلامي، على خلفية اتهامات بالاعتداء الجنسي. كما أطاح الحِراك بالمعتدي الذي سبق أن حماه نفوذه من العقاب المُستحق، وهو جيفري إبستين الملياردير الأمريكي الذي انتحر في مقر احتجازه في أغسطس الماضي قبل بدء محاكمته بتهم عديدة من بينها الاتجار بالجنس والاستغلال الجنسي لقاصرات، ويضاف إلى القائمة أيضًا أد موراي عضو الحزب الديقراطي وعمدة مدينة سياتل وغيرهم الكثير، إذ تكشف بيانات مركز استشارات إدارة الأزمة (Temin and company)، أن عدد الشخصيات التي طالها اتهامات علنية بالاعتداء الجنسي بمختلف درجاته، خلال العام الأول بعد انطلاق #MeToo، وصل إلى 810 شخصًا في شتى المجالات سواء السياسة، أو الإعلام، أو صناعة الدراما، أو المال والأعمال، أو التعليم. هؤلاء إما واجهوا محاكمات قضائية وإما خضعوا للمساءلة والتحقيق في أماكن عملهم.

على النقيض، يظهر جليًا محدودية التأثير أو عدمه على مسارات أغلب الشخصيات العامة في مصر، التي وجهت إليها فتيات ونساء اتهامات علنية بالاعتداء الجنسي خلال السنوات الثلاث الماضية، وهناك محاولات حثيثة لطمس أي اتهامات لاحقت هذه الشخصيات.

بالإضافة إلى ذلك، نجح #MeToo في خلق اتجاه عام إلى استحداث سياسات توفر الحماية للنساء داخل أماكن العمل، وظهرت تبعاته على مستويات عديدة، فعلى سبيل المثال، صار لزامًا على جميع أعضاء الكونغرس الأمريكي والموظفين داخل المجلسين التشريعيين (النواب والشيوخ) المشاركة في تدريب خاص بمكافحة التحرش الجنسي. وفي قطاع التعليم، سارعت عدد من الولايات إلى تمرير تشريعات تُلزم المدارس بتخصيص جانب من مناهج الثقيف الجنسي للتعمق في التعريف بـ «الموافقة أو القبول – Consent» وشروط تحققها، بعد أن كانت ولاية كاليفورنيا وحدها تملك تشريعًا في هذا الصدد قبل #MeToo. وفي القطاع السياحي، مررت عدد من الولايات تشريعًا يلزم الفنادق بتطوير سياسات لمكافحة التحرش الجنسي، ويفرض على إداراتها توفير أجهزة إبلاغ محمولة للعاملات والعاملين في غرف النزلاء ودورات المياه، للاستغاثة في حالة تعرضهم لأي محاولة اعتداء جنسي. وفي مجال صناعة الدراما، أصدر الاتحاد الأمريكي لفناني التلفزيون والإذاعة قائمة بالضوابط التي يتعين على شركات الإنتاج الالتزام بها لتوفير بيئة آمنة للنساء العاملات في صناعة الدراما، بما يضمن حمايتهن من التعرض للتحرش أو الاستغلال الجنسي. وعلى صعيد الإعلام، كشفت دراسة بعنوان « الإعلام و#MeToo» أصدرها مركز المرأة للإعلام في العام 2018، أن متابعة الإعلام لجرائم الاعتداء الجنسي على النساء زادت بنسبة 30 في المئة خلال العام الأول بعد انطلاق الحِراك، بالتوازي مع زيادة ملحوظة في تغطية القضايا المرتبطة بالحقوق الجنسية والإنجابية والفجوة في الأجور بين الجنسين.

كما انبثقت عن الحركة الأم (#MeToo) حركة «انتهى الوقت – Time’s Up» التي انطلقت في يناير مع العام 2018، لتكون أكثر تحديدًا في أهدافها وتركز على إنهاء العنف الجنسي ضد النساء في أماكن العمل والقضاء على التمييز ضدهن داخلها، وقد حققت هذه الحركة تأثيرًا في مجال صناعة الأفلام على وجه الخصوص، إذ أعلنت عدد من شركات الإنتاج السينمائي الكبرى في هوليوود اتخاذ عدد من الإجراءات لتحقيق الهدفين.

للأسف، هناك الكثير من الشواهد حولنا، سنتعرض إلى بعضها، تؤكد أننا لا نتقدم في الطريق المؤدي إلى تغيير كبير كهذا يمتد إلى مختلف القطاعات وعلى مستويات متفاوتة، حتى عقب إعلان مجلس الوزراء في الـ8 من يوليو الجاري، موافقته على مشروع قانون لتعديل بعض مواد قانون الإجراءات الجنائية، يسمح بالحفاظ على سرية بيانات المجني عليهن\م في الجرائم التي تباشرها الهيئات القضائية ومن بينها جرائم التحرش الجنسي والاغتصاب، وما يقع تحت التعريف القانوني لما يسمى بـ«هتك العرض»، لأنه على الرغم من أن الخطوة إيجابية بالفعل، فهي لا تعني صدور القانون وإنما إرسال المشروع إلى البرلمان لتبدأ مراحل من النقاش داخل مجلس النواب حتى يتم إقراره، فضلًا عن أن هذا المشروع لا يوفر حماية متكاملة لأنه ما زال بإمكان محامي المتهم الإطلاع على هذه البيانات، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤالان أولهما «في حالة تسريب البيانات، كيف يمكن للمُبلغات إثبات أن شخصًا ما هو مسربها؟»، وإذا كان التعديل قد جعل العقوبة في حالة إفشاء البيانات هي المنصوص عليها في المادة 310 من قانون العقوبات، فالسؤال الثاني هو «هل عقوبة الحبس لمدة لا تزيد على 6 شهور أو الغرامة التي لا تتجاوز 500 جنيه مصري المقررة في هذه المادة رادعة بما يكفي؟»

إشكاليات تعوق التقدم إلى مراحل أخرى في التغيير

الخروج عن الصمت بالقطع يخلخل المنظومة الثقافية الذكورية التي تستفيد من خفوت الأصوات، لتأبيد تقييد اختيارات النساء وتيسير استباحة أجسادهن، والانتفاضة الأخيرة تشبه إعصارًا جاء ليقتلع أسقف الأمان التي كان يحتمي بها كثير من المعتدين، ولكن هناك دائمًا من هو على استعداد لمواجهة الأعاصير بكل ما أوتي من قوة لتخفيف وطأتها ومنعها من تدمير الأساسات، للحيلولة دون تشكّل توجه عام يوقن في الحاجة إلى حماية الفتيات والنساء من جرائم العنف الجنسي، والتوقف عن تجاهلها والتشكيك فيها أو التستر عليها.

(1) تضاد الأفعال وتناقض الأقوال

لا يمكن التقليل من شأن التغيير الواضح في خطاب الأزهر ودار الإفتاء بشأن جرائم العنف الجنسي ضد النساء، وأهمية التوقف التام والصريح عن الربط بين مظهرهن ووقوع هذه الجرائم، إلا أن تاريخنا مع العديد من ظواهر العنف ضد النساء والفتيات، ومنها ممارسة تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية الخارجية (تشويه الأعضاء الجنسية البارزة) التي تحرمها المؤسستان، يثبت أن المواقف الرسمية للمؤسسات الدينية لا يمكنها أن تحدث تغييرًا كبيرًا، لأن قطاعًا من المتذرعين بالدين لتبرير انتهاك حقوق النساء، لا يعتبر المؤسسات الدينية الرسمية مرجعه، ويعتمد على ما يصدر عن دعاة ووعاظ خارجها، فضلًا عن أن عددًا من أبناء هذه المؤسسات نفسها يتبنون وجهات نظر مغايرة، ويعلنون عن آراء تشجع على انتهاك أجساد النساء، عبر منصات عديدة مفتوحة أمامهم، تُمكّنهم بحرية مطلقة من تحميل النساء مسؤولية ما يتعرضن له من جرائم اعتداء، بسبب ملابسهن التي لا تلتزم بمواصفات ما يسمونه بــ «الزي الشرعي».

هذه الآراء التي تحض على كراهية النساء وتحصرهن في خانة الجسد المراد تكبيله، يستند إليها الذين يتبنون القناعات ذاتها، وتخرج حملات دعم ومناصرة لأصحابها المُطلقة ألسنتهم، مثلما حدث خلال الأيام الماضية مع الشيخ عبد الله رشدي، وهو إمام وخطيب بوزارة الأوقاف، تعرّض لهجوم كبير بعد أن انتشرت تغريدة له اعتبر فيها ملابس النساء مبررًا للتحرش، ليسارع أنصاره والمؤيدون لأفكاره إلى تدشين وسم باسم #ادعم_عبدالله_رشدي ينشرون عبره تغريدات تدافع عنه وعن قناعاته، وبعضها يتهم المحتجين على كلامه بشن حرب على الدين الإسلامي.

إن ما يصدر عن بعض رجال الدين لتبرير وقوع العنف على النساء أو تحميلهن مسؤوليته، يعد في قوانين دول أخرى تحريضًا على الكراهية مبني على أساس الجنس، وهو أمر مجرّم في دول مثل كندا، وألمانيا، وفرنسا، وكرواتيا، وتشيلي، وهذه القوانين لا يقتصر دورها على فرض عقوبات على من يرتكب هذه الجريمة، وإنما تمثّل رادعًا لمن يفكر في ارتكابها، ومع مرور وقت على تطبيقها وإنفاذها تتخلق ثقافة مجتمعية تناهض التحريض على النساء بدلًا من استساغته واستسهاله.

وفي هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى أن الهدف الرابع من أهداف الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة المصرية 2030، الذي ينص على «حماية المرأة من خلال القضاء على الظواهر السلبية التي تهدد حياتها وسلامتها وكرامتها وتحول بينها وبين المشاركة الفعالة في كافة المجالات، بما في ذلك كافة أشكال العنف ضد المرأة»، لا يمكن أن يتحقق من دون مجابهة التحريض العلني على كراهية النساء وامتهانهن، ومن العسير أن تكون المواجهة فعالة إن لم تكن نهجًا، وليست رد فعل يظهر في وقائع ويغيب في أخرى.

 (2) الإعلام: ظاهر الخطاب «دعم لهن» وفي جوفه «خذلان كالعادة»

كانت الصحافة هي من ألقى الحجر في الماء لتنطلق الموجة الأولى لحِراك #MeToo، فالبداية تعود إلى تحقيقين استقصائيين، أجرى أحدهما الصحافي رونان فارو ونشرته صحيفة النيويوركر (The NewYorker)، والآخر أجرته الصحافيتان جودي كانتور وميغان توحي ونشرته صحيفة النيويورك تايمز (The New York Times)، كشف كلاهما التاريخ الطويل للمنتج هارفي واينستين، فيما يخص الاعتداء الجنسي على عدد كبير من العاملات بصناعة السينما في هوليوود، واستغلالهن، وابتزازهن.

على الجانب الآخر، لا يزال دور كثير من وسائل الإعلام في مصر منحسرًا في المتلقف لأخبار جرائم العنف الجنسي من مواقع التواصل الاجتماعي، وفقط عندما تصبح متداولة على نطاق واسع. كما تبرز الإزدواجية في التعامل مع جرائم العنف ضد النساء خاصة العنف الجنسي، إذا عقدنا مقارنة بين اعتراف قطاع كبير من وسائل الإعلام بوقوع جرائم اعتداء جنسي ضد الفتيات في القضية الأخيرة والرفض الحاسم لها، وما يقابله من مراوغة برزت عند اتهام عمرو وردة، لاعب المنتخب المصري، بالتحرش جنسيًا بإحدى الفتيات داخل مقر إقامة المنتخب، أثناء انعقاد بطولة كأس الأمم الأفريقية في شهر يونيو من العام 2019، على الرغم من أنه الاتهام الرابع من نوعه للاعب نفسه، وحينها وصف عدد من الإعلامين الفتاة التي اتهمته بالتحرش بالباحثة عن الشهرة واعتبر آخرون ما فعلته مؤامرة ضد المنتخب بأكمله.

علاوة على ذلك، فإن أغلب الوسائل الإعلامية في تغطيتها الأخيرة للجرائم المتهم بارتكابها أحمد بسام زكي تعمدت في وصفها لها النزول بها من الاغتصاب إلى التحرش، وبمراجعة عناوين الأخبار في عدد من الصحف، تظهر كلمة «التحرش» و«المتحرش»، وتتوارى كلمات «المغتصب» و«الاغتصاب» و«المعتدي» و«الاعتداء الجنسي»، مثل: إلقاء القبض على المتحرش أحمد بسام زكي .. حبس متحرش الجامعة الأمريكية.. بيان عاجل من النيابة بشأن المتحرش أحمد بسام زكي.. النيابة المصرية تتخذ قرارًا ضد أحمد بسام زكي المتهم بالتحرش.. اعترافات المتهم بالتحرش بفتيات في التحقيقات.

هذا ليس دعمًا للناجيات بل إهدارًا لحقهن، ويهدره أيضًا إصرار بعض الوسائل الإعلامية على استخدام كلمة «هتك العرض» في توصيف الجرائم والامتناع عن وصفها بـ «الاغتصاب»، استنادًا منها إلى نص القانون الذي لا يدرج إيلاج القضيب أو أي عضو بالجسم في الشرج باستخدام القوة أو تحت التهديد، ضمن تعريفه للاغتصاب وإنما يعتبره هتكًا للعرض، وهو ما يعبر عن ضبابية في استيعاب دور الإعلام والتزامه تجاه عملية التغيير الاجتماعي والثقافي والقانوني.

 (3) التفاعل الانتقائي مع قضايا العنف الجنسي

يسترعي الانتباه التحرك السريع للمجلس القومي للمرأة في القضية الأخيرة، وهو المتوقع والمنتظر منه بناءً على المنصوص عليه في القانون رقم (30) للعام 2018، الخاص بتنظيم عمل المجلس، والذي تنص المادة رقم (7) المتعلقة باختصاصات المجلس، في فقرتيها (12) و(13) على: تلقي ودراسة الشكاوي الخاصة بانتهاك حقوق وحريات المرأة وإحالتها إلى جهات الاختصاص، والعمل على حلها مع الجهات المعنية، وتوفير المساعدة القضائية اللازمة، وإبلاغ السلطات العامة عن أي انتهاكات لحقوق وحريات المرأة.

ولكن كان المنتظر أيضًا أن يتحرك المجلس على النحو ذاته في قضايا سابقة مثل قضية منة عبد العزيز التي كشفت في مقطع مصوّر عبر تطبيق تيك توك، عن الاعتداء عليها بالضرب واغتصابها وتصويرها لابتزازها، وقضية الفتاة التي قتلت سائق ميكروباص اختطفها وحاول اغتصابها في مدينة العياط، وعند اتهام اللاعب عمرو وردة بالتحرش الجنسي، إلا أنه لم يتدخل في أي منها. وهذا يحيلنا إلى اختصاص المجلس المنصوص عليه في الفقرة رقم (14) من المادة السابعة من قانون تنظيم عمل المجلس، وهو «نشر ثقافة حماية المرأة وتمكينها وتنميتها»، الذي يستلزم تحقيقه التدخل في شتى قضايا العنف ضد النساء وليس قضايا بعينها، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لتغيير الثقافة المُطبّعة مع العنف ضدهن، حيث المضي في خط البناء التصاعدي والتراكمي المتصل وليس السير في خط متقطع قد يحبسنا في دائرة مفرغة.

وأخيـــرًا..

لا يزال الوصم الاجتماعي عائقًا كبيرًا، وتحجيم هذا الوصم يقتضي الكف عن التعامل مع النساء لا سيما الناجيات من العنف، انطلاقًا من ثنائية الرجل القوي والمرأة الضعيفة، والرجل العاقل والمرأة العاطفية الخاضعة، والتوقف عن وصفهن ورؤيتهن كضحايا.

لن تعالج التعديلات الجزئية في القوانين جميع الثغرات، والحل هو إصدار قانون متكامل وشامل لمواجهة جميع أشكال العنف المُوّجه ضد النساء والفتيات.

لن تفلح التغطية الإعلامية الموسمية لقضايا العنف ضد النساء في تغيير الثقافة المجتمعية، يجب أن تتواصل المتابعة والتغطية التي تتمتع بالحساسية الجندرية.

العنف ضد النساء أسست له ورسخته الثقافة الأبوية التي تنشأ داخل الأسرة، والحديث المستمر عن العودة إلى «قيم وأخلاق الأسرة»، ما هو إلا إصرار على إعادة إنتاج الثقافة المبررة للعنف والحامية لسيطرة الذكور على الإناث.