صخب الحياة يعود: تحررت من تقييد الحركة.. وقيود المجتمع تلتف حولي من جديد
دخلت مصر مع نهاية شهر يونيو الماضي مرحلة إعادة الفتح التدريجي لكل القطاعات، بعد إغلاق بدأ في مارس الماضي متفاوتًا بين إغلاق جزئي لبعضها وإغلاق كلي للبعض الآخر، في إطار الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها السلطات للحد من تفشي فيروس كورونا. وفي هذا السياق، فتحت بعض المطارات أبوابها للمسافرين، وانطلقت الرحلات الجوية الدولية، وعادت المطاعم والمقاهي تستقبل مرتاديها بطاقة استيعابية تصل إلى 25 في المئة بعد إغلاق استمر لأكثر من ثلاثة شهور، واستقبلت دور العبادة المصلين، كما أعيد فتح عدد من المواقع الأثرية والسياحية، وبدأت مؤسسات العمل تعيد العاملات والعاملين إلى مكاتبهم، بعد أن اضطر أغلبها إلى تقليل نسبة المتواجدين داخل مقراتها لمنع انتشار الفيروس بينهم.
الرجوع إلى أماكن العمل يحمل معه عودة إلى طقوس يومية، ابتعد عنها قطاع كبير من العاملات والعاملين طيلة الشهور الماضية، وإذا كان هؤلاء ممن ألزموا أنفسهم بالبقاء في المنازل واعتادوا على السكون والإيقاع الهادئ للأيام، فهم الآن في مواجهة الصخب والضجيج من جديد خاصة إذا كانوا في القاهرة، وعليهم أن يعودوا للتعامل مع إيقاع سريع إلى حد العشوائية، بالإضافة إلى أن كثيرين وبالتحديد كثيرات سيعدن إلى معارك يومية كانت قد توقفت أو على الأقل خفت حدتها وكثافتها أثناء الحجر المنزلي.
عادت نسمة البالغة من العمر 30 عامًا إلى العمل من مكتبها منذ مطلع الشهر الجاري، بعد أن أصدرت الشركة التي تعمل بها قرارًا بعودة عاملاتها وعامليها بالكامل، للعمل من مقرها بعد ثلاثة أشهر من العمل عن بُعد.
تعمل نسمة في مجال تصميم الديكور الداخلي، ولأن الجانب الأكبر من عملها يتم باستخدام الحاسوب، فقد كانت من هؤلاء الذين قررت إدارة العمل أن تعفيهم من المجيء إلى الشركة وتتركهم يعملون من المنزل.
ولكن مع عودة العمل من الشركة، وعودة نسمة للخروج من منزلها يوميًا والجلوس مع زملائها لساعات عديدة، وقضاء أوقات طويلة بعيدًا عن المنزل الذي لم تخرج منه إلا أربع أو خمس مرات على مدار الشهور الثلاث الماضية، تشعر بأنها أصيبت بدوار وترى كل شيء يتحرك بسرعة وعبثية من حولها.
«ما استغربه هو شعوري بالفتور تجاه الشيء الذي كنت أنتظره بشغف. كنت أتوق إلى الوقت الذي سأعود فيه للنزول إلى الشارع، وارتداء ملابسي التي لم أمسها منذ شهور، وأترقب أول زيارة لصالون التجميل حتى أصفف شعري، وأتطلع إلى رؤية الشوارع وهي مزدحمة كما ألفتها. لكن كل ذلك لا أشعر بأي حماس تجاهه، بل أشعر أن عبئًا ثقيلًا ألقي على كاهلي، وأنني لست على استعداد للقاء الناس والحديث معهم أو تحمّل سخافات المارة وحماقات المتحرشين، ليس لدي قدرة على احتمال ساعة في صالون التجميل أنظر إلى المرآة بينما يشد أحد شعري ويجذب رأسي يمينًا ويسارًا. لقد اعتدت على البقاء وحيدة صامتة لساعات طويلة، ومطلوب مني الآن التحوّل إلى النقيض تمامًا.»
تخشى نسمة من الإصابة بفيروس كورونا، خاصة أن أعداد الإصابات ما زالت مرتفعة، إلا أنها لا تعتقد أن ذلك هو السبب الرئيس في شعورها بالثقل تجاه العودة التدريجية للحياة بطبيعة مختلفة نوعًا ما عن ما سبق، وترجع حالتها هذه إلى الفترة التي قضتها داخل منزلها والتغيير الذي صاحبها.
«أعتقد أنني وجدت داخل ما ظننته سجنًا فرضه علي فيروس كورونا، تحررًا من أشياء عديدة أهمها الاضطرار، فقد تحررت من اضطرار إلى التعامل مع مصادر الأذى سواء كانت أشخاصًا أو أماكن، تحررت من الاضطرار إلى تحمّل زحام المواصلات يوميًا، والاضطرار إلى الذهاب للقاءات مملة، والاضطرار إلى الالتزام بالواجبات العائلية في رمضان والأعياد، والاضطرار إلى البحث عن أعذار وإبداء مبررات عن كل اتصال لم أرد عليه، وعن كل موعد لم أذهب إليه. أما الآن، سأعود إلى كل هذه الاضطرارات.»
قبل شهور قليلة، كانت نسمة تعتقد أن الحياة من المستحيل أن تمضي من دون اضطرار للتعايش مع كل ما ابتعدت عنه، إلا أن عزلتها أخذتها إلى ضفة أخرى على حد وصفها، واكتشفت أنه من الممكن أن يتحرر الفرد مما كان يظنه حتميًا لاستمرار الحياة.
في الوقت ذاته، تدرك نسمة أن الحياة لا يمكن أن تستمر على النحو الذي كانت عليه خلال الفترة الماضية وأن هذه الشهور استثنائية، ولذلك استيقظت صباح يوم العطلة، وحملت حاسوبها وذهبت إلى أحد المقاهي المحببة إليها، لتشجع نفسها على العودة إلى عادتها الأسبوعية التي انقطعت عنها، حيث تقضي بضع ساعات أمام الحاسوب تقوم ببعض المهام المهنية أو تواصل جلسات التعلم التي تشارك فيها ضمن دورات تعليمية وتدريبية عبر الإنترنت.
«هذه المرة، كنت أتأمل المكان الذي اعتدت على الذهاب إليه أسبوعيًا قبل الأزمة وبداخلي شعور بالاغتراب، أنظر إلى الناس كما لو كانوا يعتدون على مساحتي الخاصة رغم أنهم يجلسون بعيدًا عني، وقبل أن تمر ساعة حملت أشيائي ورحلت.»
كانت نسمة قد أتمت إجراءات طلاقها في شهر مارس الماضي، بالتزامن مع بدء فرض حظر التجوال، وإيقاف الطيران والدراسة، وغلق المطاعم والمقاهي والأندية الرياضية وجميع الأماكن القابلة لاستيعاب التجمعات.
«وجدت الحياة تغلق أبوابها بسبب فيروس كورونا، وكل شيء كان يتحرك دخل في حالة ركود تام، وحينها تخوّفت من تدهور حالتي النفسية، خاصة أنني كنت في حاجة إلى مجال للترويح عن النفس، وسبيل للتخلص من الأفكار المشوشة والطاقة السلبية، إلا أن فترة الحجر المنزلي حملت في جوفها فرصة لتحقيق ما أريده بشكل مختلف.»
تزوجت نسمة قبل عام من شخص تعرّفت إليه من خلال أصدقائها، وقد كانا متفاهمين على حد قولها، وظنت أن أفكاره وقناعاته تتفق إلى حد كبير مع ما يخصها، وبناءً على ما تصوّرته من توافق فكري بينهما وافقت على الزواج منه، إلا أنها اكتشفت بعد شهور قليلة من زواجهما أنه على عكس ما كان يبدو عليه.
بعد شهرين من الزواج، طلب منها أن تفكر في ترك العمل، وعندما اعترضت على الفكرة، بات يستخف بعملها ويصفه بـ«غير المهم وغير المؤثر»، ومع تمسكها بقرارها تزايدت الخلافات بينهما، وبالأخص عندما كانت تعود متأخرة من العمل. بالإضافة إلى ذلك، طالبها مرارًا بتحديد علاقاتها ببعض صديقاتها المستقلات عن أسرهن والمطلقات بزعم الخوف على سمعتها «التي صارت من سمعته»، وصار يبدى اعتراضه بشكل شبه دائم تجاه اختياراتها لملابسها بدعوى «أنها لا تصلح لسيدة متزوجة»، وفوجئت في أحد أيام بأنه قد أخذ خفية بعض ملابسها وتخلص منها، بعد أن رفضت أن تتوقف عن ارتدائها. وبمرور الوقت، أضحت حياتها مع هذا الرجل تراوح بين أحاديث توجيهية ومشاجرات تنتهي بتركه للمنزل لعدة أيام.
«جاء الحجر المنزلي ليكون فرصة للتخلص من أفكار سلبية عن نفسي وصورة دونية لشخصي حاول هذا الرجل على مدار شهور أن يقنعني بها، وساعدتني تلك الأيام على تجنب ضغوط المجتمع المتحيز دائمًا وأبدًا للذكور، فاستعدت يقيني بأنني لست فاشلة كما كان يصوّر لي، وبأن صديقاتي هن مصدر الدعم الذي لا ينقطع حتى في أحلك أوقاتي ورغم المسافات الفاصلة بيننا. وفوق كل ذلك، استعدت هويتي التي سعى هذا الرجل بكل قوته أن يطمسها، ويجعلني مجرد تابع يتباهى بترويضه أمام أصدقائه وعائلته، ليحظى باحتفاء المجتمع به كرجل.»
علاوة على ذلك، وجدت نسمة أنها قادرة على إدارة حياتها وحيدة من دون اعتماد على أحد، فقد انتقلت بعد طلاقها للإقامة في الشقة التي كانت تعيش فيها مع أسرتها أثناء طفولتها، قبل أن تنتقل الأسرة إلى منزل آخر. وقد قبل والداها بذلك بعد أن ألحت في طلبها مؤكدةً احتياجها النفسي للبقاء وحدها لفترة من الوقت، وقد نجحت في إقناعهم بأن أزمة فيروس كورونا سترغم الناس على الانشغال بأنفسهم، وستقلل من انشغالهم بالآخرين ومسارات حيواتهم، لأنها تعلم أن أسرتها تعير اهتمامًا كبيرًا لـ«كلام الناس».
قبل أيام قليلة، اتصلت والدة نسمة بها لتذكرها أن الوقت قد حان لتنتقل للإقامة معهم، لأن الناس بدأت تستقيظ من غفوتها التي فرضتها الجائحة وسيلتفتون إليها، وستجلب سكنتها في الشقة بمفردها الإساءة إليها وإلى أسرتها وعائلتها بالكامل، وقد تفتح بابًا أمام طليقها ليتحدث عنها بسوء.
«أعتقد أنني سأفتقد بشدة فكرة التحرر من الرقيب الذي يلاحظ كل ما أفعله أو أقوله، وسأفتقد بعد عودتي لأسرتي وعودة الحياة إلى صخبها، تلك الساعة التي كنت أصعد فيها إلى سطح البناية قبل غروب الشمس، وأمسك بخيط طائرتي الورقية وأطلقها في الهواء، لأشاهدها تحلق أمام عيني في السماء، فيتسلل إلي شعور بأنني أحلق معها وأرى كل الأشياء صغيرة. أمر كهذا لن يكون بوسعي القيام به، وهو من الأشياء التي ستجعلني أشعر بالامتنان دائمًا لفترة الحجر المنزلي.»