السلم الزجاجي.. وسيلة الرجال للصعود سريعًا إلى «الإدارة العليا» حتى في المهن ذات الغلبة النسائية
شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر بداية اقتحام النساء لعالم العمل وكسر استئثار الرجال بسوق العمل، وخلال النصف الأول من القرن العشرين أضحت مشاركة النساء في القوى العاملة مقبولة مجتمعيًا ومدعومة من قبل الحكومات في الغرب والشرق. ولكن حتى الآن، لا يزال هناك مجالات تخضع للهيمنة الذكورية، ودخول النساء إلى ساحاتها ما برح محدودًا، ومنها على سبيل المثال؛ الطيران، والميكانيكا، وعلم الحواسيب، وريادة الفضاء، والمجال الأمني.
وبشكل عام، يظل طريق النساء في عالم العمل غير ممهد، إذ يواجهن العديد من الحواجز والعوائق سواء قبل دخولهن إليه أو بعد ذلك، ومنها الضغوط الأسرية، وتعذر التنقل الآمن، وقلة فرص التدريب والتأهيل، وغياب التشريعات والسياسات المناهضة للتحرش والابتزاز الجنسي في أماكن العمل، فضلًا عن الفجوة في الأجور بينهن وبين الرجال.
بالإضافة إلى هذه الحواجز الملموسة، تصطدم النساء في مجالات العمل المختلفة بحاجز غير مرئي يعطّل تدرجهن الوظيفي ويمنع وصولهن إلى مواقع الإدارة العليا التي يسيطر عليها الذكور. هذا الحاجز تخلقه الثقافة المجتمعية، ولا يتمثل في قوانين أو تشريعات أو سياسات مكتوبة، ويُعرَف باسم «السقف الزجاجي».
وقد جاء ذكر مصطلح «السقف الزجاجي» لأول مرة على لسان الكاتبة الأمريكية مارلين لودن في العام 1978، إلا أن انتشاره بدأ في العام 1986 بعد أن ورد في موضوع صحفي نشرته جريدة وول ستريت جورنال الأمريكية عن التسلسل الهرمي داخل الشركات.
على النقيض، يستفيد الرجال من مُيسّر ومسوّغ غير مرئي يدفع بهم إلى التقدم والارتقاء الوظيفي بصورة أسرع من النساء، حتى في المهن التي يشكّلن النسبة الأكبر من المشتغلين بها، ويشار إلى هذا المُيسّر غير الملموس بــ«السلم الزجاجي» أو «المصعد الزجاجي».
كيف ظهر هذا المصعد؟
يعلم السواد الأعظم من المهتمات والمهتمين بقضية التمكين الاقتصادي للنساء بنظرية «السقف الزجاجي» التي توّسع تطبيق فرضيتها على الأقليات العرقية والإثنية والأفراد الكويريين الذين يواجهون أيضًا حائلًا غير مرئي يعرقل صعودهم الوظيفي.
على الجانب الآخر، تظل نظرية «المصعد الزجاجي» أو «السلم الزجاجي» رغم أهميتها ومحوريتها في فهم أبعاد التمييز ضد النساء في العمل، غير متداولة أو شائعة بين الباحثات والباحثين في مجال التمكين الاقتصادي.
صاغت الباحثة الأمريكية كريستين ويليامز مصطلح «المصعد الزجاجي» أو «السلم الزجاجي المتحرك» في دراستها التي نشرتها جامعة تكساس في العام 1992، بعنوان «المصعد الزجاجي: المزايا الخفية للرجال المشتغلين بالمهن التي تهيمن عليها النساء».
في دراستها، ركزت كريستين ويليامز الباحثة في علم الاجتماع على المجالات التي تصل نسبة النساء الأمريكيات العاملات بها إلى 90 في المئة، وتحديدًا التمريض، والعمل الاجتماعي، والتعليم الابتدائي، والعمل في المكتبات، وقد افترضت في البداية أن الرجال في هذه المجالات يواجهون تمييزًا، استنادًا إلى نظرية التحيز\القبول الرمزي (Tokenism) التي وضعتها روزابيث موس كانتر الأستاذة بجامعة هارفرد في العام 1977.
كانت روزابيث قد سعت إلى إثبات أن العاملات والعاملين الذين يتم الاستعانة بهم في إطار التمثيل الرمزي للأقليات داخل أماكن العمل، بهدف رفع شبهة الإقصاء والتهميش، يكونون أكثر عرضة للتمييز على أساس العرق أو الدين أو الطبقة أو الجنس، إلا أن دراسة كريستين ويليامز توّصلت إلى العكس، إذ كشفت اللقاءات والحوارات المُعمّقة مع عينة من العاملين في المجالات ذات الغلبة النسائية، أن الرجال لا يواجهون تمييزًا فيها، بل يجدون تحيزًا لصالحهم من الإدارة والمستفيدين، ويلقون ترحيبًا من زميلاتهم، مما يساعدهم على التدرج إلى المناصب العليا ومواقع الإدارة بوتيرة أسرع من النساء، وذلك على خلاف وضع العاملات في المهن التي يهيمن عليها الذكور، حيث يعانين من التمييز ضدهن والتشكيك في قدراتهن، ويرزحن تحت ضغوط تعيق زيادة مشاركتهن هذه المجالات، وتحد من فرصهن في الترقي إلى المناصب القيادية.
ويتسق ذلك مع ما جاء في دراسة «إدارة الاختلافات الثقافية: استراتيجيات القيادة العالمية للقرن الحادي والعشرين»، التي أعدها الباحثون سارة موران وفيليب هاريس وروبرت موران، وأوضحوا فيها أن الصورة النمطية الشائعة عن أن الرجال بطبيعتهم أقوياء، وأنهم أكثر حزمًا وتنظيمًا وعقلانية من النساء، ويتمتعون بقدرة أفضل على الحساب والتحليل، ترتبط ارتباطًا مباشرًا بسطوتهم وصعودهم في العديد من المهن، خاصةً مع شيوع الافتراض بأن «نوع» الفرد هو المؤشر الدال على السمات والقدرات التي يتمتع بها.
حقيقة لا يمكن تجاهلها
يؤكد أيضًا صحة الفرضية بوجود مصعد زجاجي أو سلم زجاجي متحرك يستفيد منه العاملون من الرجال، ما كشفته دراسة صادرة في العام 2003، بعنوان «البعض يأخذ السلم الزجاجي.. والبعض يكسر السقف الزجاجي؟: النتائج المهنية للفصل الوظيفي بين الجنسين»، إذ أفادت بأن نتائج عملية تحليل لبيانات طولية مكثفة في السويد – وهي بيانات تستخدم في دراسة تأثير عوامل ومتغيرات معينة وبشكل متكرر خلال فترة زمنية طويلة نسبيًا، تمتد إلى عدة سنوات أو عقود – أظهرت أن الرجال الذين يعملون في المجالات والمهن ذات المشاركة النسائية المرتفعة، عادةً ما يتمتعون بفرص ترقي وظيفي أفضل كثيرًا من النساء المؤهلات في هذه المهن.
تصب في الاتجاه نفسه بيانات التقرير العالمي لرصد التعليم (التقرير عن المسائل الجنسانية: بناء الجسور لتحقيق المساواة بين الجنسين) الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) في العام 2019، والتي أظهرت ارتفاعًا في نسبة النساء العاملات في مجال التعليم المدرسي، لا سيما التعليم ما قبل الابتدائي والابتدائي، نتيجة رسوخ الأفكار النمطية عن المهن الأفضل للنساء، إذ تصل نسبة العاملات في مجال التعليم الابتدائي إلى 94 في المئة، ورغم ذلك يفوق عدد الرجال الذين يحتلون المناصب القيادية في المدارس عدد النساء بشكل ملحوظ، حسب ما جاء في التقرير.
ووفقًا لتقرير الفجوة العالمية بين الجنسين للعام 2017، تمثل النساء نحو 70 في المئة من العاملين في مجال الرعاية الصحية، إلا أنهن يشغلن فقط 35 في المئة من المواقع القيادية في المجال ذاته.
السيطرة الذكورية على مواقع الإدارة العليا في المجالات التي تمثل النساء القطاع الأعرض من العاملين بها، مثل؛ الرعاية الصحية، والتعليم، وخدمات العناية الشخصية، والخدمات في المطاعم والمقاهي والفنادق، تساهم بشكل جذري في استمرار الأوضاع المتردية التي يعانين منها، إذ لا تتوفر لهن فرص تدريب جيدة، ويفتقدن إلى الحماية، ويحصلن على أجور منخفضة. وتزداد هذه الأزمة رسوخًا بسبب العلاقة بين تدرج الرجال السريع إلى المواقع القيادية، واختبارهم ومعايشتهم لهذه الظروف بدرجة أقل، بالإضافة إلى تمسكهم بعقيدة «التضامن الذكوري» التي تدفع كثيرين منهم إلى الحفاظ على الأوضاع القائمة لحماية مصالحهم وحراسة نفوذهم الذي يحد من توغل النساء في عالم العمل ويضعف منافستهم.