تأسست مدرسة مصر للطيران في الـ7 من مايو في العام 1932، ومقرها مطار ألماظة بمنطقة مصر الجديدة في القاهرة، لتصبح أول مدرسة من نوعها في أفريقيا والشرق الأوسط، وقد بدأ معها تدريب المصريات والمصريين على الطيران المدني ومنحهم شهادات الطيران، وبعد عام واحد من تأسيسها حصلت لطفية النادي البالغة من العمر حينذاك 26 عامًا على «شهادة طيار خاص حرف (أ)»، لتكون أول طيّارة مصرية وواحدة من الطيّارات الأوليات في العالم.

لم يسبق لطفية النادي إلى الحصول على رخصة الطيران من المدرسة سوى 33 طيارًا، وبإنجازها هذا صارت أول امرأة مصرية وأفريقية وعربية تقود طائرة بمفردها، وقد حلقت لأول مرة من دون مرافقة أي شخص لها في رحلة جوية من القاهرة إلى الإسكندرية.

ما فعلته لطفية النادي شجع أخريات على الاتحاق بالمدرسة وتعلّم الطيران، ومنهن ليندا أمين مسعود، ونفيسة الغمراوى، وزهرة رجب، وليلى وعايدة تكلا، وبلانش فتوش، اللاتي نجحن في الحصول على إجازة الطيران حرف (أ) التي حصلت عليها لطفية، ولكن لم يستمر منهن في هذا المجال سوى ليندا مسعود التي تابعت الدراسة والتدريب حتى حصلت على شهادة الطيران التجاري، ثم شهادة معلمي الطيران في العام 1945، وأثناء فترة عملها كمعلمة للطيران تتلمذت على يدها عزيزة محرم فهيم التي أضحت لاحقًا أول امرأة تشغل منصب كبيرة معلمي الطيران بمعهد مصر للطيران، ثم منصب المديرة العامة للمعهد الذي يعد أقدم معهد للطيران في المنطقة.

في العام الذي حصلت فيه ليندا أمين مسعود على إجازة تعليم الطيران، التحقت عزيزة بالمعهد، بعد تخرجها في مدرسة الليسيه قبل عامين في العام 1943، وقد نجحت عزيزة في إتمام تدريب الطيران المعتمد الذي تصل عدد ساعاته إلى 200 ساعة، ليزداد شغفها وتتنامى طموحاتها وتطلعاتها.

بعد حصولها على إجازة الطيران، ذهبت عزيزة إلى مدير شركة مصر للطيران، تطلب منه العمل بالشركة وهي تقصد قيادة طائرات الركاب، وهو أمر لم يسبق حدوثه، إذ أن النساء اللاتي حصلن على إجازات الطيران قبلها اقتصرت قيادتهن للطائرات على الخاصة منها، وبالتالي رفض مدير المعهد طلبها معتبرًا أنه غير منطقي وغير مقبول، إلا أن مساعيها المستمرة لإقناعه بأحقيتها وقدرتها على الطيران بالركاب مثل الطيّارين الذكور، نجحت في النهاية ودفعته إلى الاستجابة لمطلبها.

لكن معارضة المدير لم تكن العائق الوحيد في طريق عزيزة، فبعد أن وافق على إعطائها فرصة قيادة إحدى طائرات الركاب، فوجئت بالركاب أنفسهم يرفضون أن تكون «الكابتن» امرأة، وتشير الروايات إلى أن ركاب الطائرة التي اختيرت لقيادتها ثاروا ضد الطاقم عندما علموا أن امرأة هي من سيُحلق بهم فوق السحاب، فاضطرت إلى النزول من الطائرة، وحينها أدركت أنه من الصعب في ذلك الوقت أن تحقق حلمها بأن تكون «كابتن طيارة» تحلق بطائرات تحمل ركابًا.

رغم ما حدث، لم تستسلم عزيزة وتبتعد عن الطيران أو تبحث عن مجال آخر يقبل المجتمع حضور النساء فيه، بل أصرت على أن تواصل مسيرتها وأن تفتح الباب أمام أخريات حتى تصبح قيادة النساء للطائرات أمرًا عاديًا يستسيغه الركاب، ويأتي اليوم الذي يقبلون فيه ويشجعون أن تطير بهم امرأة من دون أن يتشككوا في قدرتها على ذلك.

في يوليو من العام 1948، أصبحت عزيزة معلمة طيران تحت التدريب، ثم تدرجت في المناصب وصارت معلمة درجة ثالثة، ثم ثانية، ثم أولى، حتى أضحت كبيرة معلمين بمعهد مصر للطيران في العام 1957، ومن بين الذين تتلمذوا على يدها الطيار السعودي نهار النصّار الذي عمل لسنوات طويلة قائدًا لطائرات الملوك السعوديين.

بالإضافة إلى ذلك، استمرت عزيزة محرم في التحليق ولكن بالطائرات الخاصة وتلك التي يُسيّرها المعهد لأغراض محددة.

بنهاية العام 1958، تجاوز عدد ساعات الطيران الخاصة بها الـ11 ألف ساعة، وتحت إدارتها تخرج نحو 300 طيارة وطيار من مصر وأفريقيا والدول الناطقة بالعربية.

هذه الإنجازات ساقت إلى تكريمها من الرئاسة المصرية، ومنحها نيشان الجمهورية من الطبقة الرابعة في العام 1959. وبحلول العام 1967، كان قد وصل عدد ساعات طيرانها إلى 22 ألف ساعة، ليكون هذا الرقم الكبير أحد الأسباب التي ساهمت في تصعيدها إلى منصب مديرة معهد مصر للطيران، لتصبح أول امرأة تتولى إدارة معهد للطيران في أفريقيا والدول العربية.

وبعد سنوات امتزج فيها الشغف بالجدية والمثابرة والإصرار، عادت الرئاسة لتكرّمها مجددًا في العام 1983، حيث منحتها وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى.

رحلت عزيزة محرم في أغسطس من العام 1997 وهي في الـ78 من عمرها، ولم تتمكن حتى وفاتها من رؤية طيّارات يقدن طائرات للركاب بشكل اعتيادي، وبعد مرور أكثر من 20 عامًا على رحيلها يظل عدد الطيّارات قليلًا، فوفقًا لبيانات شركة مصر للطيران للعام 2017، يبلغ عدد الطيّارات والطيّارات المساعدات العاملات لدى الشركة 14 امرأة فقط.

ما برحت راسخة.. السطوة الذكورية على الطيران

يأتي العدد المُحبط للطيارات العاملات بالشركة الوطنية والرئيسة في مصر، رغم دخول النساء المصريات إلى مجال الطيران قبل أكثر من 80 عامًا، وهو ما يناظر وضعهن في مجالات عديدة اقتحمنها قبل عقود طويلة بشكل مذهل وملهم، إلا أن أنهن لم يتوغلن فيها ويقتربن من تقاسم ساحاتها حتى يومنا هذا ومنها العمل البرلماني، حيث دخلن لأول مرة إلى المجلس التشريعي كنائبات عبر انتخابات شعبية في العام 1957 وبلغت نسبة تمثيلهن وقتها 0.6 في المئة، والآن بعد 63 عامًا تبلغ نسبة تمثيلهن داخل البرلمان 15 في المئة فقط.

لكن بنظرة أعم وأشمل، فإن الطيران لا يزال مجالًا يسطو عليه الذكور في شتى الدول، والحضور الضعيف للنساء فيه ظاهرة عالمية إذ تكشف أرقام الجمعية الدولية لطيّارات الخطوط الجوية (International Society of Women Airline Pilots)، أن 5 في المئة فقط من الطيّارين التجاريين في العالم من النساء، وفي الولايات المتحدة الأمريكية تمثل النساء 4.4 في المئة من الطيّارين التجاريين، بينما تبلغ نسبتهن في بريطانيا نحو 4.3 في المئة. أما الدولة التي تسجل نسبة تعد مرتفعة بالمقارنة مع نظيراتها من دول العالم، هي الهند التي تصل نسبة الطيّارات فيها إلى 13.9 في المئة.

وتظل هذه البيانات غير كافية أو معبّرة بدقة عن واقع الطيّارات وما إن كان يتقدم أو يتراجع أو يستمر في جموده، إذ أن أعداد ونسب تمثيل النساء العاملات في مجال الطيران، لا تلتزم شركات الطيران حول العالم بإصدارها بشكل دوري، رغم توصية منظمة الطيران المدني الدولي بذلك، في القمة التي عقدتها في العام 2018 حول النوع الاجتماعي والطيران العالمي.