في مواجهة أزمة انتشار فيروس كورونا المستجد (COVID-19)، يبدو أداء بعض الدول أفضل من غيرها، وقليل منها يتفوق بشكل لافت نتيجة الاستعداد شبه الكامل والتبكير باتخاذ الإجراءات الاحترازية.

تمكّنت بعض الدول من إثبات كفاءة عالية في مجابهة الأزمة، وتحجيم انتشار الفيروس بين مواطناتها ومواطنيها، عن طريق الإسراع في تطبيق قواعد التباعد الجسدي، ووقف حركة السفر من وإلى الدول الأكثر تضررًا قبل أن تسوء الأوضاع وترتفع وتيرة الإصابة، بالإضافة إلى نشر وإجراء فحوص الكشف عن فيروس كورونا على نطاق واسع ولأكبر عدد من الأفراد، وتوفير أدوات الحماية والوقاية للأطقم الطبية بالتوازي مع تعزيز جهوزية المستشفيات لاستقبال المصابات والمصابين.

وبحسب تقارير نشرتها صحف كبرى، أبرزها المجلة الأمريكية الشهيرة «فوربس Forbes-»، تضم قائمة الدول صاحبة الأداء الأفضل كلًا من نيوزيلندا، وأيسلندا، وفنلندا، وألمانيا، والدنمارك، والنرويج، وتايوان.

تشترك هذه الدول في أن النساء هن من يضطلح بإدارة الحكم فيها، إذ تتولى سانا مارين (34 عامًا) رئاسة الحكومة في فنلندا، وتشغل كاترين جاكوبسدوتير (44 عامًا) المنصب ذاته في أيسلندا، وتتقلد جاسيندا أرديرن (39 عامًا) رئاسة وزراء نيوزيلندا، وترأس الحكومة في الدنمارك ميت فريدريكسن (42 عامًا)، وتشغل إرنا سولبرج (59 عامًا) منصب رئيسة الوزراء في النرويج، بينما تشغل أنجيلا ميركل (65 عامًا) منصب المستشارة الألمانية، وهي الوحيدة التي اختارتها مجلة «فوربس -Forbes» لتسع سنوات متتالية كأقوى امرأة في العالم. أما تايوان التي تعتمد النظام الرئاسي كنظام للحكم، تعتلي رئاستها تساي إنغ-ون (63 عامًا)، وهي أول امرأة تصل إلى هذا المنصب في بلدها، وأول امرأة في قارة آسيا تتولى رئاسة دولة عبر انتخابات شعبية.

اعتبرت بعض الجهات الدولية وكاتبات نسويات هذه القائمة فرصة لتفنيد الأفكار التي تربط الكفاءة بالنوع وترجح أن الرجال أقدر على القيادة من النساء، وهي تصوّرات شائعة في جميع أنحاء العالم، إذ كشفت بيانات لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في شهر مارس الماضي، أن ما يقرب من 50 في المئة من النساء والرجال يعتقدون أن الذكور يستطيعون أن يكونوا قادة سياسين أفضل من الإناث، ويتسق هذا مع واقع يبلغ فيه عدد النساء المنتخبات لقيادة بلدانهن 10 فقط، بحسب أرقام الاتحاد البرلماني الدولي المنشورة في يناير الماضي.

معركة تساي إنغ-ون ضد «كورونا» تبدو أشد ضراوة

يتجه أغلب الاحتفاء الدولي في هذا الصدد، إلى القائدات في الدول الاسكندنافية ونيوزيلندا وبالطبع ألمانيا، بينما لا تحظى رئيسة تايوان بالاهتمام والإشادة ذاتها، على الرغم من أن التحديات التي تواجهها أكبر، فتايوان شديدة القرب من الصين، وتعداد سكانها يتجاوز كثيرًا نظيراتها في القائمة، باستثناء ألمانيا التي يتجاوز عدد سكانها 83 مليونًا، إذ يقترب عدد سكان تايوان من 24 مليونًا، بينما لا تكسر بقية الدول حاجز الـ5 ملايين.

كما تقود تساي بلادها منذ ما يزيد عن أربع سنوات في ظل تهديد متواصل من جارتها الصين، وقد نجحت في اختبار فيروس كورونا – حتى الآن – رغم أن الحكومة في تايوان عبّرت عن استيائها من المساعدة المحدودة من منظمة الصحة العالمية (WHO)، حيث تستبعدها المنظمة الدولية من الاجتماعات الطارئة وإحاطات الخبراء الهامة بشأن وباء كورونا، خشية إثارة غضب الصين التي تتمسك باعتبار تايوان جزءًا منها.

بالإضافة إلى ذلك، تدير تساي المعركة التي تخوضها تايوان ضد كورونا، في ظل تشكيك ذكوري مستمر في قدرتها كامرأة على قيادة البلاد ومواجهة أي أزمة تطرأ.

ورغم كل ذلك، استطاعت تايوان بقيادة تساي إنغ-ون أن تطوّق انتشار الفيروس، فلم تكسر الإصابات حاجز الـ400 إصابة منذ الإعلان عن أول حالة في الـ21 من يناير الماضي، وسُجّلت ست وفيات فقط حتى وقت كتابة هذه السطور، وأضحت البلاد في موقف قوي فيما يتعلق بتوفر إمدادات الوقاية من انتشار الفيروس، ومنها أقنعة الوجه (الكمامات)، بعد قرار بحظر تصديرها استمر لعدة أسابيع، وهو ما أدى إلى وجود فائض عن الاحتياج المحلي.

ونتيجة هذا الوضع المستقر، أعلنت تساي في الأول من إبريل الجاري، تصدير 10 ملايين قناع للوجه إلى إحدى عشرة دولة من الدول الأكثر تضررًا من الجائحة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا، وإسبانيا.

الطريق إلى الرئاسة تحف به التمثلات الذكورية

أصبحت تساي إنغ-ون في العام 2016 أول رئيسة لتايوان، البلد الذي يُعرف رسميًا باسم جمهورية الصين (أما دولة الصين تُعرَف باسم جمهورية الصين الشعبية)، وهي ثاني شخص ينتمي إلى الحزب التقدمي الديمقراطي (DPP) يعتلي سدة الحكم، وهو الحزب الذي يتبنى مواقف داعمة لحقوق الإنسان وحرية التعبير، ويناهض الشيوعية، ويؤيد استقلال تايوان عن الصين.

كانت تايوان جزءًا من الصين حتى العام 1949، ثم باتت تتمتع بالحكم الذاتي، ورغم مرور نحو 70 عامًا، ما زالت الصين تهدد باستخدام القوة العسكرية إذ ما أعلنت تايوان الاستقلال رسميًا عنها. وقد زاد التوتر بين البلدين بعد أن فازت تساي بالرئاسة لأول مرة قبل أربع سنوات، لأنها من أشد المعارضين للصين وسياساتها، ومن المدافعين بشراسة عن استقلالية تايوان، ثم ازدادت الأمور تعقيدًا عقب فوزها بالرئاسة ثانية في فبراير الماضي، حيث أعيد انتخابها بنحو ثمانية ملايين صوت، وهو أكبر تصويت يحصل عليه مرشح أو مرشحة للرئاسة في تايوان، منذ أن بدأ إجراء الانتخابات الرئاسية عبر الاقتراع السري العام المباشر في العام 1996.

عملت تساي كأستاذة للقانون في جامعة سوشو وجامعة تشينجتشي الوطنية في تايوان، ثم شغلت منصب رئيسة مجلس شؤون البر الرئيسي في العام 2000، وهو وكالة إدارية منوط بها تخطيط وتطوير وتنفيذ السياسات بين تايوان والصين.

وبعد أربع سنوات انضمت إلى الحزب التقدمي الديمقراطي، ثم توّلت قيادته من العام 2008 وحتى العام 2012، ثم من العام 2014 وحتى العام 2018.

قبل انتخابات العام 2016، خاضت تساي الانتخابات الرئاسية في العام 2012، بعد أن نجحت في الفوز في الانتخابات التمهيدية للحزب في العام 2011؛ لتصبح أول امرأة تترشح للرئاسة وتمثل أحد الحزبين الكبيرين في تايوان، إلا أنها خسرت الانتخابات أمام ما يينغ جيو، مرشح حزب الكومينتانغ (الحزب القومي الصيني) المعروف بتوجهاته المؤيدة للوحدة مع الصين.

عادت تساي وأعلنت نيتها الترشح ثانية للرئاسة في العام 2015، ونجحت في الحصول على تأييد حزبها، ثم فازت في الانتخابات العامة التي أجريت في يناير من العام 2016، وحصدت نسبة 56.12 في المئة من إجمالي الأصوات، بينما حصل منافسها إريك تشو، مرشح حزب الكومينتانغ على 31.07 في المئة من الأصوات.

وقد حرصت تساي خلال حملتها الانتخابية في العام 2015 على إبراز جهودها في سبيل اعتماد سياسات وطنية، من شأنها تعزيز مشاركة النساء في المجال العام والمساواة بين الجنسين في العمل، ومن بينها دورها في تعديل قانون المساواة بين الجنسين في العمل، وإدخال نصوص عليه تُلزم مؤسسات العمل باتخاذ تدابير لمنع ومواجهة التحرش الجنسي، وووضع آليات للتعامل مع الشكاوى ذات الصلة، وتحديد وتطبيق عقوبات في حال ثبوت صحتها، فضلًا عن مواد أخرى تمنع أرباب الأعمال من رفض طلبات الموظفات للحصول على إجازة الولادة أو الإجهاض، وتقضي بأحقية النساء والرجال على حد سواء في إجازات رعاية الأطفال، للسماح بتوزيع الأدوار بشكل عادل بين الجنسين.

استنادًا لحقها الدستوري، أعلنت تساي في العام 2019 الترشح لفترة رئاسية ثانية متحديةً المعارضين، والذين يستهدفونها بهجوم قائم على النوع الاجتماعي، والمشككين في إمكانية فوزها بعد الخسائر الكبيرة التي مُني بها حزبها في انتخابات التجديد النصفي في العام 2018، وتمكنت من تحقيق فوز غير مسبوق واجتازت الانتخابات التي أجريت في يناير الماضي بفارق كبير عن منافسها، إذ حصدت ما يزيد عن 57 في المئة من الأصوات، بينما حصل منافسها هان كو يو مرشح حزب الكومينتانغ على نحو 38 في المئة فقط.

هجوم مستمر يتلخص في: امرأة .. عزباء.. غير متزنة نفسيًا

منذ أن أعلنت تساي لأول مرة عزمها خوض الانتخابات الرئاسية في العام 2012، وحتى تجديد انتخابها ثانية بداية العام الجاري، تعرّضت لهجوم ضارٍ من سياسيين وصحافيين ومواطنين، اجتمعوا على أنه لا يجوز لامرأة أن تتولى رئاسة تايوان، وقد اتخذ هؤلاء من عزوبتها وعدم إنجابها ذريعةً لتكثيف الهجوم عليها، انطلاقًا من قناعة ذكورية بأن النساء إذا لم يتزوجن أو ينجبن أطفالًا، فقد خرجن عن النمط الطبيعي والسوي للمرأة.

يصم هؤلاء تساي بعدم الاتزان النفسي والغيرة من النساء المتزوجات والأمهات، وسبق أن صرح تشانغ سان تشنغ رئيس وزراء تايوان الأسبق، قبل انعقاد انتخابات العام 2016، قائلًا إنها لا تفهم قلوب النساء وخبراتهن، لأنها لم تنجب أطفالًا. كما قال منافسها في انتخابات العام 2018، هان كو يو، إنها لا يمكنها أن تكون رئيسةً للبلاد، لأن النساء ينتمين إلى المنزل.

علاوة على ذلك، كتب الباحث الصيني وانغ ويكسينغ، والعضو بمجلس إدارة رابطة العلاقات عبر مضيق تايوان، مقالًا نشرته جريدة International Herald Leader التابعة لوكالة الأنباء الصينية الرسمية، في مايو من العام 2016، قال فيه إن تساي «كسياسية عزباء، لا تتحمل العبء العاطفي للحب أو قيود الأسرة أو القلق بشأن الأطفال، فإن أسلوبها واستراتيجيتها السياسية غالبًا ما ينموان بشكل عاطفي وفردي ومتطرف.»

وقبل انتخابها مجددًا في العام 2020، وصفها الرئيس السابق لحزب الكومينتانغ، بــ «المرأة سيئة الحظ» التي جلبت المصائب لشعبها، في إشارة إلى ما يتصوّره سوء حظ في حياتها الشخصية. لكن هذا التصريح قوبل بانتقادات شديدة على مواقع التواصل الاجتماعي، فضلًا عن أن تساي ردت بنفسها عبر منشور على حسابها على موقع فيسبوك، شددت فيه على أن هذه الاعتداءات الشخصية على النساء غير مقبولة، فاضطر إلى الاعتذار مؤكدًا أنه يحترم جميع النساء ولم يقصد سوى انتقاد أداء تساي الوظيفي.

هذا النسق الذكوري أشارت إليه قبل عقود الكاتبة النسوية سيمون دي بوفوار في كتابها «الجنس الثاني» الذي صدر في العام 1949، عندما وصفت الزواج بأنه المصير الذي يحدده المجتمع للمرأة، وبالتالي تصبح النساء متزوجات أو كن متزوجات، أو يخططن ليكن متزوجات أو يعانين من أنهن لسن كذلك.

جاءت أيضًا المعارضة الذكورية من داخل حزبها «التقدمي» الذي يزعم أنه يدعم المساواة بين الجنسين في كل المجالات، فبعد أن أعلنت نيتها خوض انتخابات الرئاسة في العام 2012، علّق أحد أعضاء الحزب المخضرمين، بأن من ترتدي التنورة غير مؤهلة إلى أن تكون «قائدًا عامًا للقوات المسلحة»، وهو المنصب الذي يتقلده كل من يصل إلى رئاسة البلاد.

في الثاني من يوليو في العام 2019، كتبت تساي على حسابها على موقع فيسبوك منشورًا ترد على الهجوم الذكوري غير المنقطع عليها، وقالت في جزء منه «أنا على استعداد لتقبل الانتقادات ومواصلة العمل الجاد. لكن شن هجمات شخصية على أساس الجنس أو على أساس الخصوبة (الإنجاب)، هو فعل ينكر وجود النساء ويقوض جهود الحكومة.»

يقع هذا الهجوم الثَلِب بينما تتميز تايوان بين دول آسيا بأكبر تمثيل للنساء في المجلس التشريعي، والذي يصل إلى 42 في المئة، مع الأخذ في الاعتبار تحديد حصة للنساء منذ العام 2000، بعد إجراء تعديلات على الدستور تقضي بتخصيص ربع مقاعد البرلمان للنساء.

لا يختلف كثيرًا وضع عضوات البرلمان في تايوان عن الرئيسة، حيث يتعرضن باستمرار لانتقادات وإساءات على أساس النوع، مما يؤكد أن تحقيق تقدم في التمثيل النسائي في مراكز صناعة القرار لا يعني بالضرورة انكفاء الثقافة الذكورية، بل إن ما تواجهه تساي والفاعلات في المجال السياسي في تايوان، يجلي أنه حتى إن كانت هذه الثقافة تتراجع نسبيًا فإن الطغمة المتمسكة بها تزداد توحشًا كلما تضاعفت مشاركة النساء في المجال العام وتدرجن إلى المواقع العليا التي خضعت للاحتكار الذكوري طويلًا.