حياتي في زمن كورونا: عنف خانق.. وخطط تتبدد.. وأحلام تذهب أدراج الرياح
كتبت: آلاء حسن
مساء الرابع والعشرين من مارس الماضي، استقبلت ماجي (29 عامًا) رسالة عبر بريدها الإلكتروني من مسؤولة الموارد البشرية بالشركة التي تعمل بها، تخبرها بأن الإدارة قررت تخفيض راتبها الشهري لفترة مؤقتة نتيجة الظروف المستجدة التي فرضها تفشي فيروس كورونا COVID-19، وذلك بعد ساعات من إعلان الحكومة المصرية فرض حظر التجوال يوميًا من السابعة مساءً وحتى السادسة صباحًا.
وقد جاء هذا القرار الإداري بعد أيام قليلة من إخطارها بأن الشركة تتجه إلى تقليل عدد العاملات والعاملين المتواجدين داخل مقر العمل كإجراء وقائي، ومن ثم سيتعين عليها القيام بمهام وظيفتها من المنزل.
تعمل ماجي منذ عام ونصف تقريبًا كصانعة محتوى ومتخصصة في وسائل التواصل الاجتماعي، لدى شركة نائشة متخصصة في مجال صناعة الإكسسوارات النسائية، حيث تتولى إدارة موقعها الإلكتروني وصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد حصلت على هذه الوظيفة بمساعدة أحد أصدقائها، بعد أن انتهى تعاقدها مع أحد المراكز الثقافية حيث كانت تؤدي المهام ذاتها.
العمل بالنسبة لماجي حاجة أساسية، لا تملك رفاهية الابتعاد أو الامتناع عنه ولو لفترة قصيرة، فالبقاء من دون عمل لشهرين أو أكثر يعني أنها لن تجد مالًا كافيًا لتسديد إيجار المسكن ولن تستطيع تحمل نفقات العيش، خاصة أنها توقفت عن الاعتماد ماديًا على والديها، بعد أن انتقلت من مدينة بني سويف إلى القاهرة الصاخبة التي وجدت فيها ملاذًا ومهربًا من الإيذاء النفسي والجسدي الذي كان ركنًا رئيسًا من أركان حياتها مع أسرتها.
رغم أن القرار وفق ما جاء في الرسالة هو تخفيض للراتب وليس تسريحًا مؤقتًا أو فصلًا نهائيًا، فقد تسلل إليها شعور بالقلق والخوف، وأخذ يتعمق أكثر فأكثر.
يراود ماجي شعور بأن خطوة أسوأ قادمة في الطريق، ربما تكون تخفيضًا في عدد العاملات والعاملين أو تعليقًا للنشاط، فهي شركة ناشئة من الصعب أن تصمد طويلًا أمام الوضع الراهن على حد قولها.
كانت ماجي تمني نفسها بحياة جديدة ستبدأها في غضون شهور، ووضعت خططًا كبيرة مفعمة بالأمل، إلا أن فيروس كورونا أطاح بكل ذلك.
بعد يومين من رسالة تخفيض الراتب، أيقظها في الخامسة والنصف صباحًا، إشعار تنبيه على هاتفها، بعد أن وصلت رسالة إلى بريدها الإلكتروني من المنظمة التي كانت قد أعلمتها قبل نحو أسبوعين بنجاحها في التأهل إلى زمالة للشباب، تهدف إلى تطوير مهاراتهم القيادية وقدرتهم على التغيير الإيجابي في مجتمعاتهم، من خلال برنامج تدريبي يستمر لتسعة أشهر في الولايات المتحدة.
جاءت هذه الرسالة لتعصف بأكبر أحلامها، فقد قررت المنظمة تأجيل الزمالة وسفر المشاركين الذي كان مقررًا في منتصف يوليو المقبل من دون تحديد موعد بديل، بسبب تفشي فيروس كورونا الذي جعل الولايات المتحدة على رأس الدول المتضررة من الفيروس، حيث تجاوز إجمالي عدد الإصابات نصف المليون (حتى وقت كتابة هذه السطور).
قضت ماجي أيامًا في وحدة موحشة بعد أن باتت تسكن بمفردها، حيث عادت شريكتاها في السكن إلى عائلاتهما، بعد أن قررت العديد من مؤسسات العمل إتاحة الفرصة أمام الموظفات والموظفين للعمل من المنزل، تطبيقًا للتباعد الجسدي الموصى به للحد من سرعة انتشار الفيروس.
تصف ماجي هذه الأيام بالثقيلة، فقد صارت ساعات الليل طويلة تقضيها وحيدة في ظل صمت وخيم سببه حظر التجوال، ومواقع التواصل الاجتماعي تعج بقصص وصورة مأساوية تثير الهلع، وكلما ذهبت لشراء حاجات المنزل ووجدت زحامًا وتكدسًا زاد وجلها، ومع كل بيان لوزارة الصحة والسكان بشأن الإصابات والوفيات التي تزيد يومًا تلو الآخر، كانت تتجسد الكوابيس أمام عينيها.
تقول ماجي «كنت أســأل نفسي كل ليلة، لو تمكن مني الفيروس، من سيراعيني؟، هل سأبقى في المنزل وأموت وحدي؟، لو ذهبت إلى مستشفى العزل، من سيسأل عني؟ هل سأموت هناك وحيدة أيضًا؟»
وبعد تفكير مضنٍ ومحاولات لتهدئة النفس وتسكين القلق، حزمت ماجي أمتعتها وغادرت إلى بني سويف، إذ لم يعد هناك مفر من هذه الخطوة بعد أن أضحى الوضع مأزومًا على المستويين النفسي والمادي.
«العودة إلى عالم حاربت للخلاص منه»
تقول ماجي «كنت قد قررت أن أقضي معظم اليوم في غرفتي، حتى أتجنب الاحتكاكات الأسرية قدر الإمكان، رغم أنني في وقت أحتاج فيه بشدة إلى من يربت على كتفي ويطمئنني ويخبرني بأن كل ذلك سيمر.»
لكن هذا لم يحدث، فقد وجدت نفسها مجبرة على القيام بجميع الأعمال المنزلية، من تنظيف الأرضيات، وغسيل الملابس وكيها، والطهي، وغسيل الأطباق، وترتيب الغرف، فضلًا عن الذهاب إلى المتجر لشراء احتياجات المنزل من أغذية وخلافه.
كما تعيش ماجي تحت مراقبة شبه كاملة، فليس بوسعها أن تجلس في غرفتها بمفردها وتغلق بابها إلا إذ كانت أمها نائمة. أما إذا فعلت ذلك في وقت آخر يكون رد الفعل عنيفًا، «كنت في اجتماع عبر الإنترنت مع مديرتي في العمل، وفوجئت بأمي تدفع باب غرفتي بقوة، وهي تصرخ: أنا مش قولت ماتقفليش الباب على نفسك، وحينما قلت لها أنني في اجتماع عمل، ردت بانفعال: بردو تفتحي الباب.. طول ما أنت هنا باب أوضتك مفتوح.»
خلعت ماجي الحجاب بعد استقرارها في القاهرة بشهور قليلة في العام 2014، بعد أن فرض عليها والداها ارتداءه لنحو عشر سنوات، ولكنها لم تمتلك حينها الشجاعة الكافية لإخبارهما، فأخفت الأمر عنهما لثلاث سنوات خوفًا من رد الفعل.
وعلى الرغم من أن والدها اعتدى عليها بالضرب المبرح عندما أخبرته بخلعها للحجاب، فقد وافق لاحقًا على ما اختارته بشرط أن تفعل ذلك في القاهرة فحسب، حتى لا يعرف أقاربهم أو جيرانهم ويسيئون إليه.
لكن في الوقت الحالي، عادت ماجي مثلما كانت قبل أن ترحل عن مدينتها، ترتدي الحجاب في كل مرة تذهب إلى السوق والصيدلية والبنك وخلال أي مشوار، وترتديه حتى في المنزل عندما تخرج إلى الشرفة لتنشر الملابس، وعقب كل أذان تأمرها أمها بالوضوء وترغمها على أداء الصلاة أمامها، لأنها تظن أن ابنتها لم تعد تصلي بعد خلع الحجاب.
فرضت أزمة انتشار فيروس كورونا على كثير من النساء الاضطرار إلى قبول أوضاع صعبة ومنهكة نفسيًا، لأن البدائل محدودة أو معدومة والحماية المستحقة غائبة، فعلى الرغم من أن ماجي تشعر بفقدان الحرية التي انتزعتها، فهي على يقين من أنه لم يكن هناك خيارات أفضل أمامها، «في النهاية عودتي إليهم كانت أكيدة، فالأزمة يبدو أنها ستطول.»
العنف الذي يتعرض له الأبناء داخل المنازل، ينظر إليه المجتمع باعتباره حقًا أصيلًا للآباء والأمهات لتأديب بناتهم وأولادهم، وهو عنف غالبًا ما تتعامل معه جهات إنفاذ القانون باعتباره قضية اجتماعية، يُفضّل فيها التصالح وليس العقاب الجنائي. وفوق كل ذلك، فإن القانون المصري لا يتضمن موادًا تجرّم العنف الأسري.
في أحد الأيام، استيقظت الفتاة لتجد خالتها تجلس مع أمها يتبادلان الحديث، فوقفت على مسافة منها ترحب بها، ثم دخلت إلى المطبخ لتعد لها فنجان قهوة، وعندما عادت وضعته على المنضدة أمامها ثم تراجعت خطوات للوراء، فنظرت إليها خالتها بامتعاض وقالت بلهجة حادة «يعني لا سلمتي عليا ولا خدتيني بالحضن وقولتيلي: وحشتيني يا خالتي أنا آسفة أنا مقصّرة في حقك.. ودلوقتي بتحطي الصنية وتجري.»
اعتذرت ماجي وأكدت لها أنها لا تقصد مضايقتها، وإنما تحاول أن تلتزم بإجراءات السلامة حتى تقيها وتقي نفسها من الإصابة بفيروس كورونا، وقبل أن تنهي كلماتها لمحت عيني أمها وقد ملأهما الغضب، فسارعت إلى معانقة خالتها وكررت اعتذارها. ومع ذلك، لم تفلح ماجي في دفع غضب أمها بعيدًا.
«بعد رحيل خالتي، فوجئت بأمي تقتحم غرفتي ثائرة، وأطلقت سيلًا جارفًا من الشتائم، ثم خرجت وأغلقت الباب بعنف، فحمدت الله أن القصة قد انتهت عند هذا الحد، من دون أن تقذفني بشيء أو تجذبني من شعري كما اعتادت أن تفعل في السابق.»
بعد دقائق معدودة، سمعت ماجي صوت إغلاق باب غرفتها بالمفتاح من الخارج، فركضت نحوه تحاول أن تفتحه لكنها فشلت، فصرخت تطلب من أمها أن تفتحه ولا تتركها حبيسة بالداخل، وكررت اعتذارها ووعدتها بأن تفعل أي شيء لتصلح الموقف، حتى صاحت أمها بصوت عالٍ «طول عمرك فضحانا قدام الناس، وجاية عشان تكملي فضايحك.. خليكِ كده عشان تتعلمي الأدب.»
قضت ماجي نحو ثماني ساعات محبوسة في الغرفة، «حرمتني حتى من الذهاب إلى الحمام لقضاء حاجتي.»
لم تتصل ماجي بأي من المنظمات النسوية التي توفر خدمات الدعم النفسي، ولا تفكر في اللجوء إلى هذه الخدمات في الوقت الراهن، إلا أنها تحاول أن تدعم نفسها بطرق أخرى، مثل الاشتراك في مزيد من الدورات التدريبية عبر الإنترنت لتنمية مهاراتها اللغوية، وقراءة الكتب، ومشاهدة الأفلام، والاستماع إلى الموسيقى، معولةً على هذه الأشياء لتسليها في هذه الأيام العسيرة.
بحسب هيئة الأمم المتحدة، فإن أقل من 40 في المئة من النساء اللاتي يتعرضن للعنف المنزلي يطلبن المساعدة أو يبلغن عن جرائمه، وأقل من 10 في المئة من النساء اللاتي يسعين إلى الوصول للمساعدة يذهبن إلى مراكز الشرطة.
وفي بيانها الأخير، تشير الهيئة الدولية إلى أن أزمة انتشار فيروس كورونا جعلت إبلاغ النساء عن جرائم العنف المنزلي أكثر صعوبة، بسبب تقييد استخدامهن للهواتف (على يد المعتدين) بما يقلص إمكانية إبلاغهن عبر الخطوط الساخنة، فضلًا عن تعطيل الخدمات الشرطية وخدمات العدالة والخدمات الاجتماعية.
تراود ماجي فكرة العودة إلى القاهرة، إلا أنها تخشى الحاجة وتخجل من أن تطلب مساعدة من أصدقائها، ولا تريد أن تبدد ما أدخرته من مال في الإيجار، فهي تريد الحفاظ عليه ليكون سندًا لها عندما تسافر للالتحاق ببرنامج الزمالة – الذي لم تخبر عائلتها بأمره حتى الآن- لأن النفقات المغطاة محدودة ولا تتجاوز حدود الاحتياجات الأساسية.
تختتم ماجي حديثها معنا، الذي دار عبر تطبيق الواتساب كخيار آمن بالنسبة لها، مؤكدةً أنها مضطرة للبقاء مع أسرتها لفترة، إلى أن تجد عملًا بديلًا يُمكّنها من العودة إلى القاهرة، أو حتى يتقهقر فيروس كورونا فتعود الحياة إلى طبيعتها وتجد منفذًا لاستعادة ما حاربت من أجله لسنوات.
** تم تغيير الاسم حفاظًا على أمن وسلامة صاحبته
تقدم مؤسسة قضايا المرأة المصرية خدمات الدعم القانوني والنفسي للنساء عن طريق الهاتف من خلال:
01159199588
01144416334
01154025425
توفر مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون الدعم النفسي والقانوني للناجيات من العنف عبر الهاتف:
الدعم القانوني: 01210009192
الدعم النفسي: 01279177326
يخصص مكتب شكاوى المرأة بالمجلس القومي للمرأة خطًا ساخنًا لاستقبال بلاغات النساء بشأن العنف ضدهن، ورقمه: 15115