الوجه الآخر للقصة: تيتانيك.. حكاية «صعلوك» أمريكي وضع ضحية «الأرستقراطية» الخانقة على أول طريق الحرية
قبل 108 عام، مساء الـ14 من إبريل في العام 1912، في تمام الساعة الـعاشرة وسبع دقائق بتوقيت مدينة نيويورك، اصطدمت أكبر سفن العالم وأكثرها ترفًا خلال رحلتها الأولى، بجبل جليدي في شمال المحيط الأطلسي، وبعد ساعتين وأربعين دقيقة، غرقت السفينة وراح معها ما يقرب من 1500 شخص.
تناول العديد من الأفلام السينمائية الأمريكية والأوروبية كارثة السفينة «RMS Titanic»، إلا أن أكثرها شهرة وتأثيرًا في ملايين المشاهدين حول العالم، كان وما زال فيلم «تيتانيك – Titanic» الأمريكي، الذي عرض لأول مرة على الإطلاق في الأول من نوفمبر في العام 1997 ضمن فعاليات مهرجان طوكيو السينمائي الدولي، ثم استقبلته دور العرض السينمائي في الولايات المتحدة في ديسمبر من العام نفسه، ووصل إلى مصر مع بداية العام 1998. وعلى الرغم من أن عرضه في مصر اقتصر على عدد محدود من دور العرض لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، فقد حقق نجاحًا كاسحًا واستثنائيًا، وتخطت إيراداته ما حصدته الأفلام المصرية المعروضة في الفترة نفسها.
عشش فيلم «تيتانيك -Titanic» في وجدان الملايين ممن شاهدوه سواء عند عرضه في دور العرض أو من خلال الأقراص المدمجة بعد سنوات قليلة من عرضه، وأصبح جزءًا من ذكريات باقية تثيرهم كلما شاهدوه، وأضحى طرفا قصة الحب التي ارتكز عليها الفيلم، حلمًا بالنسبة لكثير من المراهقين، يتمنون أن تمنحهم الأقدار شريكًا يناظر جاك أو شريكة تشبه روز.
صدّر الفيلم في قشرته الخارجية أن الرجل أحد نقيضين، إما فقير لكنه «نبيل»، إن أحب ضحّى بكل ما لديه حتى حياته من أجل أن تتحرر حبيبته وتعيش لسنوات تزيد عن المئة تستمتع بالحياة، وإما ثري وأناني ومتعجرف، يقيد المرأة ويحرمها حرية الاختيار والقرار ليضمها إلى ممتلكاته. أما المرأة في هذا الفيلم فقد انحصرت في ثلاثة نماذج؛ الأول وتمثله شخصية الأم وهي سيدة أرستقراطية متغطرسة وعابسة في أغلب الأوقات، ملتزمة بالقالب النمطي المحدد لبني جنسها في ذلك الوقت، ولا يشغلها سوى المظاهر الاجتماعية، وقد تضحي بأي شيء لتحافظ على بقائها في بروجها العالية. أما النموذج الثاني تجسده سيدة تدعى مولي براون، وهي امرأة ثرية لا تحظى بتاريخ بين طبقة النبلاء، ولذلك يعاملونها باحتقار ويصفونها بـ«السوقية»، إلا أنها تبدو أكثر إنسانية وعفوية منهم، وتتسم بالنبل وخفة الظل الذين يتميز بهما أبناء طبقة العمال الفقراء عمومًا، على عكس «النبلاء» الذين تندر بينهم مثل هذه الصفات، وفق وجهة نظر المخرج والمؤلف جيمس كاميرون التي ترجمها سينمائيًا عبر الحوار والصورة معًا.
النموذج الثالث تمثله البطلة، روز ابنة الـ17 ربيعًا، الأمريكية التي تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية، ومع ذلك تبغض كل مظاهر التكلف والاصطناع التي تعيشها هذه الطبقة، وتكره القيود الاجتماعية والأخلاقية المفروضة عليها بسبب انتمائها إليها.
لكن النموذج الأخير يظل إشكاليًا بالنسبة لكثيرين، ممن اهتموا بتحليل الفيلم وشخوصه، والسؤال الذي يثار من حين إلى الآخر، بين من لا يزال معنيًا بالتنقيب فيما حمله الفيلم من رسائل تشبعت بها عقول الملايين: هل كانت بالفعل الشخصية الرئيسة في الفيلم فتاة متمردة نشدت التحرر وبلغته أم أنها فتاة طائشة وهبتها الحياة مُخلّصًا ومحررًا، من دون كلماته التي وجهتها ويديه التي أنقذتها أكثر من مرة، ما كانت لتمطي الخيل من دون السرج الجانبي المخصص للنساء، وتدرك الحرية التي كانت تتوق إليها؟
وفي حقيقة الأمر، فإنه من الصعب قراءة فيلم «تيتانيك – Titanic» من زاوية نسوية، بمعزل عن الأبعاد الطبقية والسياسية والثقافية المتشاكبة في هذه الملحمة السينمائية، لأن التعقيدات التي صنعها التقاطع بين كل منها، تدفعنا إلى إعادة النظر في سمات الشخصيات وملامحها، والدلالات التي أراد صانع الفيلم إيصالها، وتساعدنا على معرفة مدى تأثير الإشباع البصري والسمعي الذي تحقق لمشاهدات ومشاهدي الفيلم، على استدراجهم للدلالات المتوارية.
«تيتانيك – Titanic» هو صنيعة المخرج جيمس كاميرون، هو صاحب الفكرة، وهو الذي أخرج منها فيلمًا طافت شرائطه أرجاء العالم. تفتقت قريحته عن القصة، فحوّلها إلى نصٍ مكتوب، وشارك بيده في أعمال المونتاج، كما شارك في إنتاج الفيلم، وفوق كل ذلك هو المخرج، وهو أيضًا من رسم بيده لوحات البطل جاك داوسن الذي قام بدوره الممثل ليوناردو ديكابريو
نزوع إلى التحرر من قيود العصر الإدواردي.. والبصلة بيد رجل أمريكي كادح
اختار المخرج جيمس كاميرون فاجعة سفينة أر إم أس تيتانيك (RMS Titanic) الإنجليزية، التي كانت تمتلكها شركة White Star Line البريطانية للنقل البحري، لتكون موضوع فيلمه، وقد حمّل كاميرون السفينة وقصتها رمزيات ودلالات أكثر وأعمق من تلك الطافية على السطح عن المأساة التي ما برحت تدمي القلوب حتى الوقت الحاضر.
في الظاهر، رحلة «تيتانيك» التي بدأت من ميناء ساوثهامبتون في إنجلترا قاصدةً مدينة نيويورك الأمريكية، نقطة تحوّل في حياة بطلة الفيلم روز ديويت بوكاتر، التي أدت دورها الممثلة كيت وينسلت. وفي الباطن، هي الجسر المؤدي إلى أمريكا المتحررة من بقايا الأرستقراطية البريطانية التي قتلت الملايين حول العالم، فالرحلة التي انتهت بخروج روز من شرنقة العائلة المتشحة بأفكار وممارسات العصرين الفيكتوري والإدواردي، وآلت إلى إعادة تشكيلها بأيدي جاك الفنان الأمريكي الشريد، هي التي قادتها إلى الحقبة التقدمية في الولايات المتحدة، حيث أصبحت إحدى نساء الطبقة المتوسطة الأمريكية اللاتي كن في مقدمة المتمردات على الأعراف الاجتماعية المُكبّلة لهن، ونجحن في إحداث التغيير الثقافي والاجتماعي المشهود في العشرينيات، وهذا ما تثبته الصور التي أحاطت روز نفسها بها بعد أن تقدم بها العمر.
انطلقت الحقبة التقدمية في الولايات المتحدة الأمريكية، فيما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهي حِراك إصلاحي قادته الطبقة المتوسطة، وأحد أبرز سماته إلى جانب محاربة الفساد، الاحتجاج على الفجوة الطبقية الواسعة التي صنعتها البلدان الأوروبية خاصةً المملكة البريطانية، وصدرتها إلى أمريكا قبل خلاص الأخيرة من التبعية الثقافية والفكرية. وقد أقدمت نساء هذه الطبقة على الخروج إلى الساحات التي احتكرها الرجال، ليغيرن واقعهن أو بالأحرى يصلحنه في إطار حركة إصلاحية أوسع، وبحلول العشرينيات كن قد انتزعن حق التصويت والترشح في الانتخابات، وارتفعت نسبة العاملات، وجرت مزيد من التعديلات الإيجابية على إجراءات الزواج وقانون الطلاق.
تظهر روز الشابة في مشهدها الأول، عند وصولها إلى ميناء ساوثهامبتون «الإنجليزي»، مرتدية قبعة وقفازات، وقميص ورابطة عنق وسترة فوقهما، بالإضافة إلى تنورة طويلة، وتتوافق هذه البدلة الكلاسيكية مع أزياء العصر الإدواردي، وبحسب مؤرخي متحف بالتيمور الأمريكي، فإن هذه البدلة تتشابه إلى حد بعيد مع تصميم عرضته مجلة الموضة الفرنسية La mode ، في أحد أعدادها الصادرة في العام 1912.
لم تتخلص روز من الأزياء ذات الطابع الإدواردي التي تقبض على أجساد النساء وتُحجّم حركتهن، إلا بعد نجاتها وعودتها إلى أمريكا، إذ تظهر في الصور التي توثق جانبًا من حياتها بعد «تيتانيك»، وهي ترتدي السراويل والقمصان وبعضها ياقته مفتوحة، وهذا المظهر لا ينفصل عن ما توّثقه الصور من أفعال ترمز إلى التحرر كركوب الطائرة، وركوب الخيل على غير الطريقة المعهودة للنساء، إذ كن يركبن واضعات أرجلهن على جانب واحد للحصان.
في المقابل، بدت الأم روث ملتزمة بملابس نساء الطبقة الأرستقراطية في ذلك الوقت، لتتوافق مع العقيدة التي تحملها هذه السيدة.
ضم طاقم العمل عددًا ضئيلًا من النساء، ومن أبرزهن المصممة الأمريكية ديبورا لين سكوت، التي توّلت اختيار الملابس وتصميم الأزياء في الفيلم، وحصدت عنه جائزة الأوسكار لأفضل تصميم أزياء، وقد قوبل عملها حينذاك بإشادات نقدية لافتة، نظرًا لتطابق تصميماتها مع الفترة الزمنية التي تدور أحداث الفيلم خلالها
قدم جيمس كاميرون شخصية الأم روث، التي تؤدي دورها الممثلة فرانسيس فيشر، امرأة ذات وجه واحد، هي وابنتها على طرفي النقيض، اهتمامها الأول والأخير هو المظهر الاجتماعي، تلتزم بالصورة النمطية لـ«السيدة» وفق قواعد الإدوارديين المنتمين إلى طبقة النبلاء، حيث النساء خلقن للبقاء في المنزل، والسبب الاضطراري للخروج منه هو التعليم الذي لا يعدو كونه وسيلة للزواج، إذ تقول لرفيقتيها على الباخرة «إن الغرض من التحاق الفتيات بالجامعة هو الحصول على زوج مناسب، ولأن ابنتها وجدته بالفعل في إشارة إلى خطيبها كاليدون هوكلي، الذي يؤدي دوره بيلي زين، لم يعد هناك إذن حاجة إلى الجامعة.»
الزواج بالنسبة للطبقة الأرستقراطية في الحقبة الإدواردية كان بالدرجة الأولى وسيلة للحفاظ على الثروة والمكانة العليا في المجتمع، ومن المهم أن تتزوج الفتاة برجل من الطبقة ذاتها، لضمان استدامة التأمين المادي لها ولأسرتها. وهكذا كان وضع روز التي أرادت أمها تزويجها من رجل أعمال شاب، لتؤمن لنفسها ولابنتها البقاء في كنف الطبقة العليا بعد أن أغرقهما الأب الراحل في الديون. وبينما ترى روز أن أمها تستغلها وتضحي بها من أجل المال، تعتقد الأخيرة أن النساء مضطرات دائمًا إلى خيارات صعبة، إذ تقول لها في حوار حاد بينهما «نحن نساء.. خياراتنا لا تكون سهلة أبدًا»، ثم تتبع هذه الجملة بمواصلة ربط المشد (الكورسيه) الذي ترتديه روز بقوة، كما لو كانت تلجمها.
فضلًا عن المال والوجاهة الاجتماعية، كان لكاليدون هوكلي ميزة أخرى في نظر الأم روث، وهي التواطؤ معها لتطويق روز بالأغلال التي تحول دون تمردها على القواعد العامة لطبقتهم، فما أن تقول الأم لروز إنها تنزعج من تدخينها، إلا ويتدخل هو ويأخذ السيجارة من فمها ويطفئها.
كان تعامل هوكلي مع روز محكومًا بقناعة ذكورية أن المرأة مجرد شيء يضمه إلى ممتلكاته، فيقدمها إلى مجتمعه من هذا المنطلق، ويقمعها حتى ترضخ له، وعندما تتركه وتختار غيره شريكًا، يزداد وحشية محاولًا إعادتها إلى محبسه، وبعد أن يفشل بشكل نهائي يحاول أن يقتلهما، ويطلق الرصاص نحوهما، في مشهد يوثق تفحش الغرور والتسلط الذكوري ممتزجًا بالاستعلاء الطبقي، إذ لم يقبل عقله التصالح مع فكرة رفضه.
الفنان الصعلوك رسم اللوحة التي عاشت بعده 84 عامًا
رغم أن الظاهر في كلمات روز وبعض تصرفاتها هو رغبة في التمرد على حياتها، فإنها لا تبدو عاقدة العزم على تغييرها أو حتى تعرف كيف يكون ذلك، وفي لحظة ما تهرع إلى مؤخرة السفينة لتلقي بنفسها في المحيط وتنهي حياتها. لكن سرعان ما تعدل عن قرارها الذي بدت مترددة في اتخاذه، بعد أن يتحدث إليها جاك داوسن – في حوارهما الأول – عن أهوال السقوط في مياه المحيط التي تكاد تتجمد في هذا الوقت من العام.
هذا المشهد الذي بدأت به قصة روز وجاك، ينبعث من تصور نمطي عن دواعي انجذاب المرأة للرجل، فقد ظهر جاك رجلًا عاقلًا، طليق اللسان، نبيل، تدّخل ليحمي فتاة هوجاء ومتهورة، وليعيديها إلى صوابها، ثم أنقذها من الموت بعد أن انزلقت قدمها وكادت تسقط في المحيط، ليصبح بذلك هو الشخص الذي كانت تشكو غيابه قبيل محاولة الانتحار غير الجادة، «كنت أشعر أنني أقف على شفا الهاوية، ولا أحد موجود ليشدني إلى الخلف، لا أحد يهتم أو حتى يلاحظ.»
ومن هنا تبدأ علاقة أسلمت فيها المرأة بالكامل للرجل الذي مد يده إليها لينقلها إلى عالمه، وأنقذها مرة بعد الأخرى لتحقق ما تمناه لها، وضحى بحياته ليتجسد فيها حلمه.
في سياق الخطاب البارز للفيلم، فإن جاك داوسن يمثل الأمريكيين من أبناء طبقة العمال المطحونة الذين يكابدون الظلم الاجتماعي ووأد الأحلام في واقع تغيب عنه العدالة، لكنه أيضًا يرمز إلى التمرد الأمريكي في بداية القرن العشرين، الذي قاد إلى صياغة شخصية مستقلة للولايات المتحدة متحررة من التأثير الأوروبي، فهو فنان تعكس أعماله تداخلًا بين الحركتين الواقعية الاجتماعية والحداثية، اللتين كانتا بمثابة انتفاضة ضد الهيمنة الأوروبية الطاغية على الفن الأمريكي.
جاك هو أحد أولئك الفنانين الشبان الذين أرادوا أن ينسلخوا من الجلد الأوروبي، وتدلل على ذلك رسومه التي لم تلق استحسانًا في العاصمة الفرنسية باريس مثلما أخبر روز، لأنه يميل إلى تصوير الأفراد العاديين وتحديدًا النساء في مشاهد من الحياة اليومية، كأم ترضع طفلها، وسيدة عجوز تجلس في انتظار حب ضائع، وعاملات بالجنس التجاري يظهرن بأجسادهن العارية. وتبدو هذه الرسوم وقد دبت فيها الحياة بقلم جاك، وهو ما أرجعته روز إلى أنه يرى الناس من الداخل، مثلما رآها وأدرك دواخلها دونًا عن بقية المحيطين بها.
كان فن جاك ميزة أخرى، ضاعفت انبهار روز بالفنان الصعلوك، فهي تحب بيكاسو ومونيه، وهما من فناني الحقبة الحداثية، وبعد رؤيتها لرسومه، أصبح أحد أحلامها أن يرسمها بالطريقة نفسها التي رسم بها فتيات باريس المتحررات من الرقيب والحسيب والقيود الاجتماعية. وسرعان ما حقق لها هذا الحلم، ورسم اللوحة التي ظلت على حالها لـ84 عامًا، وعاشت روز السنوات نفسها على النحو الذي رسمها عليه.
لقد جسّد جاك تركيبة تمزج بين فتيات الطبقة العليا والعاملات بالجنس التجاري الفقيرات؛ فتاة تحررت من احتشام طبقة النبلاء شديدة التحفظ، وفي الوقت ذاته لم تصبح مثل الأخريات تمامًا، فعنقها تحاوطه قلادة بديعة من الماس الأزرق، تسمى «قلب المحيط»، كانت في حيازة لويس السادس عشر، آخر ملوك فرنسا قبل الثورة الفرنسية. هذه هي الصورة التي أراد جاك أن تكون روز عليها، امرأة بين هؤلاء وأولئك في مرتبة وسطى.
هذه الصورة باتت واقعًا، بعد أن قرر جاك إما أن يقف خلفها يوجهها أو أن يمسك بيديها ويمضي بها نحو الحرية، يفتح لها بابًا بعد باب حتى تدرك بداية الطريق الطويل.
روز.. تريد حياة كالتي يعيشها الرجل وتتطلع إلى حرية يحققها لها ذلك الرجل
في مشهد الحديث المطوّل بينهما على سطح الباخرة، يحكي لها جاك عن حياة الصعاليك التي يعيشها ومغامراته التي تمنت لو بوسعها أن تعيشها، واستخدمت في وصفها لتطلعاتها كلمتي «مثل الرجل»، فقالت له «علمني أن أركب الجواد مثل الرجل – Teach me to ride like a man»، ثم طلبت منه أن يعلمها أن تبصق مثل الرجل، ليبدأ في تدريبها على ذلك سريعًا.
الإشكالية التي يبرزها هذا المشهد هي أن الحرية بالنسبة لروز تتمثل في فعل الأشياء التي يفعلها الرجل، وتحديدًا ابن الطبقة الفقيرة الذي لا تقيده قواعد ومظاهر، وتريد أن يعلمها الرجل بنفسه كيف تقوم بهذه الأشياء، أي أنه هو الذي سيهديها إلى الحرية التي تطمح إليها، وهذه هي السردية التي عمد المخرج جيمس كاميرون إلى تمريرها طوال الفيلم.
رأت روز في جاك الكمال، بينما رآها هو كقطعة حلي تحتاج إلى إزالة الصدأ الذي يغطيها ويحول دون بروز بريقها، إذ أنه عندما يقرر أن يخبرها بحبه لها، يصفها بأنها فتاة صغيرة مدللة، مستخدمًا أحد أكثر التعبيرات إزدراءً «You’re a spoiled little brat»، ومع ذلك فإنها بالنسبة له أجمل امرأة التقى بها على الإطلاق، وعندما لا تستجيب له نتيجة الخوف والتردد، يحذرها من موتها حيةً إن لم تحرر من أسرتها، رابطًا بوضوح بين تحررها واختياره.
وبالفعل تختار روز جاك وحياته، وفي واحد من أشهر المشاهد الرومانسية في السينما، تذهب إليه على سطح السفينة لتخبره بقرارها، فيطلب منها أن تغمض عينيها، ثم يصعد بها إلى مقدمة السفينة، حيث يتبادلان قبلتهما الأولى.
المكان هنا له دلالته الرمزية، والحركة لها دلالتها البصرية، فقد اعتلت روز مقدمة السفينة التي استخدمها المخرج رمزًا للتحرر في أكثر من مشهد. لكنها صعدت إلى هذا المكان بمساعدة جاك، الذي كان يقف خلفها موجهًا لها، وأمامها الطريق إلى أمريكا، بوصفها أرض الأحلام.
تمت بنجاح: من روز ديويت بكاتر إلى روز داوسن وصولًا إلى روز كالفرت
مع تتابع الأحداث، يصبح مألوفًا رؤية جاك يحمي روز من أي تهديد أو خطر قد يودي بحياتها، حتى بعد أن تغرق السفينة ويسقطا في المحيط، تجد روز نفسها من دونه في المياه فتنادي عليه ولا يجيب، حتى يظهر مرة أخرى منقذًا من جديد؛ يخلصها من أيدي رجل يحاول أن يغرقها، ثم يأخذها إلى لوح خشبي (من حطام السفينة) ويساعدها أن تستلقي عليه، ليكون بذلك قد أوصلها إلى بر الأمان، وأضحت هي مستعدة لحياة جديدة تعيشها حرة.
يموت جاك بسبب الانخفاض الشديد في درجة حرارة الجسم (hypothermia)، بعد أن انتهت مهمته ووضع روز على أول طريق الحرية. لكنه قبل الرحيل، طلب منها أن تعده بتحقيق حلم آخر من أحلامه لها، وهو نجاتها والانطلاق في الحياة، وإنجاب الأطفال ورؤيتهم يكبرون أمامها، إلى أن تموت بعد سنوات مديدة في فراشها.
من نجت من الغرق ليست روز ديويت بكاتر، وإنما هي مولودة جديدة بث فيها جاك الروح، ولذلك سجلت اسمها في قائمة الناجيات والناجين روز داوسن، وقد تزامن إعلان الميلاد مع اللحظة التي تعلقت فيها عيناها بتمثال الحرية الذي كان في استقبالها، ليكون هذا المشهد – من وجهة نظر أمريكية بني على أساسها الفيلم برمته – كافيًا لتصور الحياة التي ستعيشها روز في أمريكا الحرة، بعد أن ابتلع المحيط في أعماقه بقايا الطبقية البريطانية وتحفظها الخانق.
بعد أكثر من ثمانين عامًا، تعود روز العجوز بصحبة حفيدتها الشابة إلى المكان الذي غرقت فيه «تيتانيك»، وهي تحمل اسم روز كالفرت التي نتعرف إليها من خلال الصور التي رافقتها في رحلة استعادة الذكرى، إذ تظهر في هذه الصور شابة تمتطي حصانًا، وتقف إلى جانب طائرة، وتمسك بسمكة اصطادتها، وصور أخرى تشي بأنها قد أضحت ممثلة سينمائية. وبالتالي، تكون روز قد حققت ما كانت تتمنى أن يعلمها جاك إياه ومنعه الموت منه، وهو امتطاء الفرس مثل «رعاة البقر»، وحلقت بالطائرة لتنطلق مثله من مكان إلى مكان وقتما شاءت، فضلًا عن أنها تعلمت هوايته في صباه وهي الصيد.
بعد أن وصلت روز إلى اللوحة التي رسمها لها جاك واستعادت قصتها معه، تقذف ماسة «قلب المحيط» آخر من تبقى من روز ديويت بكاتر، في المكان الذي تقبع فيه بقايا «تيتانيك» وحيث افترقت عن جاك، بعد أن أبقت عليها في حوزتها لتُذكّرها بذلك الرجل الذي تراه سببًا في الحرية التي اختبرتها لأكثر من ثمانية عقود، ثم ينتهي الفيلم بمشهد تخيلي يترك انطباعًا بأنها قد ماتت بعد أن عاشت الحياة التي أهداها لها، إذ تظهر شابة من جديد تعود إلى «تيتانيك» في اللحظة التي غرقت فيها، 2:20 صباح الـ15 من إبريل بتوقيت السفينة حينها، وفي انتظارها جاك الذي ما زالت يده ممدودة إليها تشدها إلى أعلى، ويحيط بهما كل الضحايا الذين قضوا ليلتها، ولكن هذه المرة لا تفرق بينهم الطبقية.