صرخات الذعر تدوّي، طلقات الرصاص تتناثر، أجساد تسقط، جثث تغرق في دمائها. وبعد عشرين دقيقة تصل الشرطة وقد انتهى كل شيء، ليتحول يوم الـ6 من ديسمبر في العام 1989، إلى واحد من أكثر الأيام دموية في تاريخ كندا،  وتصبح ساحة مدرسة بوليتيكنيك للهندسة في مدينة مونتريال، شاهدًا على أن النساء قد يقضين بسبب نوعهن الاجتماعي، ولأن رجالًا على هذه الأرض يكرهون النسوية.

مذبحة مونتريال ليست معروفةً لكثيرين في العالم العربي، خاصة أنها من الحوادث التي لم تنل حظًا وافرًا من التوثيق والدراسة والتحليل، من جانب الباحثات والباحثين في الشأن النسوي في منطقتنا. لكن هذه الجريمة الدامية تستحق النظر فيها وفي ما تحمله من دلائل على أن التسويغ الثقافي لكراهية النسوية كمنهج، يُنتِج إرهابًا ليس فكريًا فحسب وإنما ماديًا أيضًا.

مذبحة رفض المجتمع الاعتراف بأنها «إرهاب ذكوري للنسويات»

كان اليوم الدراسي الأخير، قبل بدء إجازة عيد الميلاد، في مدرسة بوليتيكنيك للهندسة (École Polytechnique) في مدينة مونتريال الكندية، وقد ذهب الطلاب لحضور المحاضرات، في أجواء بدت طبيعية، حتى انقلب كل شيء رأسًا على عقب، عندما ولج المبنى في الخامسة مساءً، شاب عشريني يرتدي سروالًا من الجينز، ويحمل حقيبة قمامة خضراء.

في غضون دقائق، كان مارك ليبين البالغ من العمر 25 عامًا، قد صعد إلى الطابق الثاني واقتحم إحدى غرفه، ثم أخرج سلاحه من الحقيبة وأمر الذكور الموجودين فيها وعددهم خمسين فردًا بالاتجاه إلى الجانب الأيمن، وأبقى الفتيات وعددهن تسع في الجانب الأيسر، ليطلق الرصاص عليهن، بعد أن صرخ قائلًا «أنتم جميعًا نسويات .. أنا أكره النسويات.»

بعد سقوطهن أمامه وأجسادهن مضرجة بالدماء، خرج ليبين من الغرفة يطلق الرصاص على أي امرأة يراها في الممرات، ليقتل في النهاية 14 امرأة، ويصيب عشر أخريات، فضلًا عن سقوط أربعة ذكور بعد أن تطايرت الطلقات النارية في أنحاء المكان.

بعد أن فرغ ليبين من جريمته، وجّه البندقية إلى رأسه وأطلق الرصاص فسقط قتيلًا، تاركًا خلفه دليلًا آخر على كراهيته للنسوية والنسويات، إذ وجدت الشرطة في حوزته خطابًا يضم 19 اسمًا لناشطات نسويات كنديات، كان يخطط لاغتيالهن.

وفي خطابه الذي كتبه  باللغة الفرنسية،  يقول «لقد قررت إرسال النسويات اللاتي كن السبب دائمًا في تدمير حياتي إلى أجدادهن.. حتى لو ألصقت بي وسائل الإعلام وصف القاتل المجنون، فإننى اعتبر نفسي شديد العقلانية.»

وهذا ما حدث بالفعل، فقد وصفته الصحف والقنوات التلفزيونية بالمجنون والمختل، وفي مقدمتها إذاعة راديو كندا، التي استخدمت وصف «قاتل مجنون»، بعد سويعات من وقوع الجريمة.

لكن وسائل الإعلام  ذاتها لم تصف الجريمة الوحشية، بقتل عمدي للنساء سببه الكراهية والذكورية، بل إنها فتحت المجال لهؤلاء المحللين والأطباء النفسيين الذين أنكروا أن يكون ليبين قد تعمّد قتل النساء تحديدًا، وبرروا ارتكابه لهذه الجريمة، بحالة دمار نفسي كان يعاني منها، نتيجة التغيرات الاجتماعية التي  أدت إلى زيادة الفقر، وانعزال الأفراد، وارتفاع معدلات العنف في  المجتمع.

وكانت دون بلاك، عضوة الحزب الديمقراطي الجديد في كندا، قد أشارت إلى هذه الإشكالية، في تصريح صحافي، أدلت به في مايو من العام 2018، إلى مجلة ماكلين الإخبارية الكندية، حيث قالت إن أي شخص كان يصف جريمة ليبين بأنها جريمة ضد النساء، يتعرض للذم والنقد، وأضافت «لقد جزمت وسائل الإعلام، فيما عدا بعض الاستثناءات، بأن ليبين شخص مختل، ورفضت أن ترى أنه ربما يكون مضطربًا ارتكب عن عمد جريمة قتل ضد النساء.»

لقد ضمّت قائمة النساء اللاتي  كان يخطط ليبين لقتلهن، اسم الصحافية النسوية الكندية فرانسين بيليه، التي كانت السبب في نشر نص خطاب الانتحار،  بعد أن سعت جاهدة للوصول إليه، متحديةً قرار السلطات بمنع نشره بشكل رسمي، بدعوى أنه قد يثير المزيد من الذعر بين النساء، خاصة اللاتي كان يريد ليبين اغتيالهن.

سُرّب إلى بيليه الخطاب مرفقًا به قائمة الاغتيالات في نوفمبر من العام 1990، فنشرته في جريدة «الصحافة – La Presse » الكندية، لتقدمه كدليل دامغ على أن الرجل كان يعني ما يفعله، وتُحرّكه معاداة النسوية ورفض القبول بواقع فيه النساء ينتزعن حقوقهن في المجال العام.

ومنذ وقوع مذبحة مونتريال، لم تنقطع بيليه عن البحث في تفاصيلها، حتى قررت بعد مضي 25 عامًا على الجريمة، أن تنفذ فيلمًا وثائقيًا بعنوان «ميراث الآلم »،  في محاولة منها لاستكشاف الدوافع النفسية التي تقف وراء ارتكاب ليبين لهذه الجريمة.

بالإضافة إلى بيليه، ضمت القائمة اسمي أول سيدة إطفاء في مقاطعة كيبيك، وأول شرطية في المقاطعة نفسها، إلى جانب مجموعة أخرى من النساء اللاتي حققن إنجازات وكسرن احتكار الذكور لمهن ومناصب بعينها، وهو ما رآه ليبين تعديًا على امتيازات الرجال وتدمير لوجودهم.

تبرز قناعته تلك في خطابه، خاصة عندما قال إن «النسويات كن دائمًا موهوبات في إثارة غضبي »، مبررًا ذلك بأنهن «يردن الحفاظ على مكتسباتهن، وانتزاع مكتسبات الرجال.»

أراد ليبين التخلّص من النساء اللاتي كسرن الأدوار الاجتماعية التقليدية، لا سيما هؤلاء اللائي دخلن إلى مجال الهندسة الذي كان الرجال يهيمينون عليه، فقد رأى في حصولهن على نسبة 20 في المئة، من مقاعد الدارسين بمدرسة بوليتيكنيك تهديدًا لطموحه، إذ كان يتطلع إلى الالتحاق بها.

هذا ما أفرزته مخاوف الذكور من العدالة الجندرية…

على الرغم من أن مذبحة مونتريال هي جريمة استهدفت النساء، على خلفية جندرية، إلا أن التعامل معها أيضًا باعتبارها جريمة من جرائم العنف ضد النساء فقط، يعكس تغافلًا عن بُعد جوهري في الأمر، لأن هذه المذبحة لم تكن لتحدث إلا في إطار حملات وهجمات ممنهجة تُحرّض ضد النساء اللاتي يناضلن من أجل حقوقهن وتمكينهن، فقد ارتكب ليبين جريمته انطلاقًا من قناعة بأن حصول النساء على حقوقهن في التعليم والعمل، يضر بالامتيازات التي يتمتع بها الذكور، وهي وجهة نظر يتبناها السواد الأعظم من الرجال الذين يتمسكون بهذه الامتيازات التي تضمن لهم الحفاظ على الهوية الذكرية الأبوية والموقع السلطوي في المجالين الخاص والعام.

كما تأتي مذبحة مونتريال، في وقت كانت الموجة الثانية للحركة النسوية في كندا، تجني ثمار نضالها فيما يتعلق بحقوق النساء في العمل، وقد تجسد ذلك في استجابة البرلمان الكندي لمطالب إقرار المساواة بين الجنسين في العمل، من خلال قانون حقوق الإنسان الكندي، الذي صدر في العام 1977، ونص على حظر التمييز على أساس الجنس وضمان المساواة في الأجر عن الأعمال المتساوية، ثم قانون المساواة في الأجور الذي صدر في العام 1987، قبل وقوع الجريمة بعامين.

لا تبدو هذه الخطوات بعيدةً عن ما ساق ليبين إلى جريمته، فهذه القوانين التي تأتي إذعانًا لنضال النسويات،  دفعت المزيد من النساء إلى الولوج إلى سوق العمل، والدخول إلى المجالات التي طالما استحوذ عليها الذكور؛ ولذلك أيقن القطاع الأوسع من الناشطات الكنديات، أن القاتل لم يقصد فقط قتل الطالبات اللاتي ظنّ أنهن السبب في تعطيل دخوله إلى مدرسة بوليتيكنيك، وإنما عمد أيضًا إلى إرهاب المدافعات عن حقوق النساء، وكل من يؤيد أفكارهن ويستجيب لنضالهن.

بعد ثلاثة عقود.. جاء الاعتراف بالحقيقة

الاعتراف بأن مذبحة مونتريال كانت هجومًا إرهابيًا معاديًا للنسوية، كان مطلبًا لم تتخل عنه الكثير من الناشطات النسويات على مدار ثلاثة عقود، فلم يرضخن لممانعة السلطات للإقرار بذلك، ولم يكتفين ببعض الخطوات التي اتُّخذت لامتصاص غضبهن، مثل إعلان البرلمان الكندي بعد عامين من وقوع المذبحة، اعتبار الـ6 من ديسمبر «يومًا وطنيًا لإحياء ذكرى الضحايا والعمل ضد العنف الذي يستهدف النساء.»

وفي هذا السياق، طالبت مجموعة من النسويات، في ديسمبر من العام 2009، بالإقرار رسميًا بطبيعة الهجوم، إلا أن الحكومة الكندية تجاهلت المطلب حينها، ولم تعترف بالحقيقة إلا بعد عشر سنوات، عندما أعلنت مدينة مونتريال تغيير التوصيف المكتوب على اللوحة التذكارية الموجودة في الحديقة التي خُصِصَت لإحياء ذكرى ضحايا المذبحة، ليكون نصه: سُمّيت هذه الحديقة بـساحة الـ6 من ديسمبر – 1989، إحياءً لذكرى الـ14 سيدة اللاتي لقين حتفهن، خلال الهجوم المعادي للنسوية الذي وقع في كلية بوليتيكنيك للهندسة، في الـ 6 من ديسمبر في العام 1989. إنه تذكير بالقيم الأساسية للاحترام والمساواة، وإدانة لجميع أشكال العنف ضد نساء.

حتى هذه الخطوة، لم تقدم عليها السلطات الكندية في ضوء إعادة النظر وتدارك الأخطاء، وإنما جاءت بعد ضغط مستمر، آخره كان ذلك الطلب الذي وجهته أستاذتان جامعيتان بشبكة كيبيك للدراسات النسوية، إلى رئيس حي كوت ديه نيغ نوتردام دي غريس، الذي توجد فيه الحديقة التذكارية، حيث طالبتا بتعديل النص الموجود على اللوحة، لأنه لا يشير إلى أن الهجوم معادٍ للنسوية (Antifeminist Attack).

رغم مرور ثلاثين عامًا على مذبحة مونتريال، فإن جميع العناصر التي قادت إلى هذه الجريمة الوحشية ما برحت قائمة في كندا وكل أنحاء العالم، ليبقى الجمر متوهجًا تحت الرماد. في كل مكان، هناك كثيرون مثل ليبين يعلقون خيباتهم في الحياة على النساء، وآخرون يرون أن جرائم قتل النساء لها مبرراتها ودوافعها، وثمة أشخاص يرون أن النسوية هي مؤجج الفوضى والكراهية، وأن النسويات سبب الدمار الذي يحل في أي مكان في العالم.