ما تمر به النساء ويواجهنه من عنف قائم على النوع الاجتماعي، لا يمكن التعامل معه بمعزل عن الهويات الاجتماعية الأخرى، كالدين، والعرق، والطبقة، والبيئة الجغرافية، والتوّجه الجنسي، لأن جميعها يتداخل ويتشابك إما ليضاعف العنف ضدهن وإما ليخفف من حدته. إذ أن انتماء امرأة إلى الأكثرية في مجتمع ما، يحميها من عنف يستهدف امرأة أخرى لأنها تنتمي إلى الأقلية.

هذه القناعة التي تكوّنت لدى كثيرات وكثيرين، يلخصها مصطلح «التقاطعية» الذي صاغته الأكاديمية والباحثة النسوية الأمريكية كيمبرلي ويليامز كرينشو، في ورقة بحثية نشرتها جامعة شيكاغو في العام 1989، وعنونتها بـ«إلغاء تهميش التقاطع بين العرق والجنس: نقد نسوي أسود للعقيدة المناهضة للتمييز والنظرية النسوية والسياسات المناهضة للعنصرية».

صياغة النظرية وتفسيرها

ركزت كيمبرلي كرينشو في ورقتها الأولى حول «التقاطعية» على ثلاث قضايا، استدلت بها على أن الأمريكيات من أصول أفريقية يواجهن تمييزًا على أساس النوع والعرق معًا في مؤسسات العمل.  القضايا الثلاث هي: قضية عُرِفت باسم ديغرافنريد ضد شركة السيارات جينرال موتورز (العام 1976)، وقضية مور ضد شركة هيوز للمروحيات (العام 1982)، وقضية باين ضد شركة الرعاية الصحية ترافينول (العام 1976).

حرّكت نساء من أصول أفريقية دعاوى قضائية ضد هذه المؤسسات، بسبب التمييز ضدهن في التوظيف، أو في شغل مواقع بعينها، أو في الترقيات، إلا أن القضاء الأمريكي لم يعترف في القضايا الثلاث، بأن النساء ذوات البشرة الملوّنة يواجهن تعنتًا في أماكن العمل، ليس فقط بسبب جنسهن وإنما لأنهن ينتمين إلى الأقلية.

عادت كرينشو ونشرت في يوليو من العام 1991 ورقة بحثية أخرى بعنوان «استكشاف الهامش: التقاطعية، سياسات الهوية والعنف ضد النساء الملوّنات»، في دورية Stanford law review ، لتصبح الورقتان مرجعًا لمن يتبنون منهج «التقاطعية» في تحليل أنظمة الاضطهاد والقمع التي تجابهها النساء.

استخدمت كرينشو مصطلح «التقاطعية» لتوضح التشابك القائم بين العنصرية والذكورية، الذين تواجههما النساء ذوات البشرة الملوّنة، ولتعبر عن انعكاسات ذلك على حقوقهن في الخدمات العامة والنظام التشريعي. وقد شرحت «التقاطعية» من خلال تشبيه الهويات بالطرق، والسياسات العامة بالسيارات، وبالتالي فكل من تقف في التقاطع وتريد أن تعبره، مُعرّضة للاصطدام بسيارة قادمة من أحد هذه الطرق.

ومثالًا على ذلك، إذا أرادت امرأة من ذوات البشرة الملوّنة أن تعبر التقاطع الرئيس في مدينتها، فهي في مواجهة الطريق السريع وهو طريق العنصرية، ويمكن أن يكون أحد الطرق المتقاطعة هو الذكورية، والآخر هو الطبقة، ولذا فإنها مضطرة إلى التعامل مع كل مصادر القمع هذه حتى تجتاز التقاطع.

ردًا على «النسوية البيضاء»

اتسعت «التقاطعية» لتكون معبرةً عن نضالات النساء من مختلف الأعراق، والطبقات، والأديان والتوجهات الجنسية، والأعمار، وحتى المستوى التعليمي، بهدف خلق حِراك نسوي أكثر شمولًا واستيعابًا، بعد أن برز الإقصاء والتهميش في الخطاب النسوي الغربي خلال الموجتين الأولى والثانية للحركة النسوية.

قبل صعود «النسوية التقاطعية»، كان الخطاب النسوي الغربي يركّز على تجارب النساء صاحبات البشرة البيضاء، خاصة المنتميات إلى الطبقة المتوسطة وذوات التوّجه الجنسي الغيري، ويعمد إلى تعميم تجاربهن على بقية النساء، ولذلك أفرزت التقاطعية مصطلحًا آخر وهو «النسوية البيضاء» الذي يُستخدَم لوصف تيار نسوي يؤمن بفصل التمييز الجندري عن أشكال التمييز الأخرى، القائمة على أسس العرق والميول الجنسية والطبقة والدين والإعاقة، والعمر.

قبل ذلك.. أدركت سوجورنر تروث «التقاطع»

في الـ29 من مايو في العام 1851، وقفت الناشطة الأمريكية من أصل أفريقي سوجورنر تروث، في مؤتمر عن حقوق المرأة انعقد في مدينة آكرون بولاية أوهايو، وألقت خطابًا يندد بالتمييز والعنف الذين تواجههما النساء من ذوات البشرة الملوّنة، مؤكدةً أنهن يواجهن عنفًا مُركبًا لا تواجهه النساء ذوات البشرة البيضاء.

كان الخطاب ارتجاليًا حين ألقته سوجورنر، ونشرته صحف محلية عقب المؤتمر بدون عنوان، وظل هكذا حتى نشرته الكاتبة النسوية فرانسيس دانا باركر كيج خلال الحرب الأهلية في الولايات المتحدة (1861-1865)، بعنوان «ألستُ امرأة؟!».

وفي جزء من خطابها، تقول سوجورنر «ذاك الرجل هناك يقول أن النساء بحاجة للمساعدة ليتمكنّ من ركوب العربات، وأن يُحملن للمرور من فوق الحفر، وأن يحصلن دائمًا على أفضل الأماكن أينما تواجدن. لكن لا يقوم أي شخص بمساعدتي أثناء ركوبي العربة أو مروري من فوق حفرة طينية، ولم يمنحني أحدهم أبدًا أفضل الأماكن. ومع ذلك، ألستُ امرأة؟ فلتنظروا إلي، انظروا إلى ذراعي، لقد حرثت وزرعت وحصدت، ولم يشرف علي أي من الرجال.. ألستُ امرأة؟ أنا أستطيع أن أعمل وأن آكل الطعام – عندما أستطيع الحصول عليهما – تمامًا كالرجل، حتى أنني يمكنني تحمّل ضربات السوط.. ألستُ امرأة إذًا؟

يعتبر خطاب «ألستُ امرأة؟!» أحد المراجع الأساسية فيما يتعلق بـ«النسوية التقاطعية»، لأن سوجورنر طرحت من خلاله تساؤلات، كشفت مدى الارتباط اللصيق بين العبودية والذكورية في حياة النساء ذوات البشرة الملوّنة، قبل أن تتناول كيمبرلي كرينشو الأمر نفسه بـ138 عامًا.

ولدت سوجورنر تروث باسم إيزابلا بومفري، في مقاطعة أولستر بولاية نيويورك في العام 1797، لتجد نفسها واحدة من العبيد الذين يتعرضون إلى أشكال وحشية من العنف والتعذيب الجسدي.

استمرت معاناتها حتى استطاعت الهروب من مالكها في العام 1826، وفرت إلى مدينة نيويورك بحثًا عن الحرية، ثم بدأت نضالها ضد العبودية، فاختارت لنفسها اسم سوجورنر تروث، وقادت حملات من أجل تحرير مسلوبي الحرية في الولايات المتحدة، وألقت خطابات تطالب بحقوق النساء ذوات البشرة الملوّنة. وبعد انتهاء الحرب الأهلية، عكفت على مساعدة المحررين من العبودية على بدء حياة جديدة وإيجاد وظائف.

منذ تبلور المصطلح والمفهوم، تلقفت الحركات النسوية في شتى أنحاء العالم «التقاطعية»، بتعطشٍ لفلسفة نسوية تعترف بجميع الفئات المُهمّشة والمضطهدة، ولا تُهمِل تجارب البعض أو تتجاهل معاناة جماعات بعينها باستعلاء، وباتت «التقاطعية» منهجًا تتبناه نسويات كثيرات مؤمنات بأن النسوية لا بد أن تناضل ضد كل صور الأبوية، وليس صورة واحدة أو بعض هذه الصور.