في ذاكرة الفن المصري، يرتبط اسم فاطمة رشدي بتاريخ وضعها بين أهم صانعات السينما في مصر والمنطقة العربية، فضلًا عن كونها رائدةً من رائدات فن التمثيل المسرحي.

اعتلت فاطمة رشدي خشبة المسرح فصارت واحدةً من ألمع نجومه، ثم انتقلت إلى عالم السينما تدريجيًا مع نهاية العشرينيات، فخاضت غمّار الإنتاج والإخراج والتأليف إلى جانب التمثيل، لتصبح واحدةً من خمس سيدات وضعن أسس صناعة السينما المصرية، الأضخم والأطول عمرًا في المنطقة، وثالث امرأة تسجل أفيشات الأفلام حيازتها لمهمة الإخراج السينمائي قبل أن يُخضعها الذكور لسيطرتهم في الأربعينيات وما تلاها.

في عشرينيات القرن الماضي، اقتمحت عزيزة أمير وبهيجة حافظ وفاطمة رشدي وآسيا داغر وأمينة محمد ساحة الفن السينمائي، كمنتجات وممثلات وامتدت مشاركتهن في صناعة الأفلام (فيما عدا آسيا)، إلى شتى الأدوار الرئيسة من تأليف وإخراج، بالإضافة إلى المونتاج والموسيقى أحيانًا.

في الحلقتين السابقتين من سلسلة «مناهج المخرجات المصريات»، تعرضنا إلى اتجاهات كل من عزيزة أمير وبهيجة حافظ، في معالجة القضايا النسوية سينمائيًا في الأفلام التي أخرجنها؛ إذ شاركت عزيزة في إخراج «ليلى – إنتاج 1927» و«كفري عن خطيئتك – إنتاج 1933»، بينما أخرجت بهيجة فيلمي «الضحايا – إنتاج 1932» و«ليلى بنت الصحراء- إنتاج 1937». وفي هذه الحلقة، نتعرض إلى التجربة الإخراجية الوحيدة لفاطمة رشدي في فيلمها «الزواج – إنتاج 1933».

وتأكيدًا لما ذكرناه في الحلقتين السابقتين، فإن العلم بأن تجارب المخرجات الأوليات جاءت في فترة لم تكن مهام الأدوار الرئيسة في الصناعة قد تبلوّرت بشكل كامل، والتداخل بينها لم تفصله حدود واضحة، لا يتعارض مع تحليل تفضيلاتهن لموضوعات أفلامهن، والزوايا التي اخترن الانطلاق منها، خاصة أن إنتاجهن لهذه الأفلام وتصدرهن بطولتها، ترتب عليه تحبيذٌ لمعالجة ظواهر الظلم الاجتماعي التي تعاني منها النساء بسبب جنسهن.

الزواج: نسخة أخرى من ميلودراما الرائدات التي تُقبّح القيم الذكورية

نقطة الارتكاز في فيلم «الزواج» الذي أخرجته فاطمة رشدي، واستقبلته دور العرض المصرية في يونيو من العام  1933، تتشابه مع الفيلمين الذين أخرجتهما عزيزة أمير وفيلم «الضحايا» الذي أخرجته بهيجة حافظ، وهي سيطرة الأسرة على بناتها التي تتبدى في تزويج البطلة قسريًا من رجل لا يميزه سوى الثراء المادي.

إرغام البطلة على الزواج يرفع أول غطاء عن الظلم الواقع على النساء وقتئذٍ، إذ لا تملك المرأة خيار الرفض أو القبول، فهي مضطرة إلى الإذعان إلى قرار الأسرة وتحديدًا الأب، ثم ترفع فاطمة في فيلمها الغطاء الثاني عندما تُجلي ملامح الحياة الشقية التي تعيشها البطلة مع زوجها الذي يمارس بحقها عنفًا نفسيًا ويؤذيها قولًا وفعلًا، وترفع الغطاء الثالث حينما تُصعِّد الأحداث ليتأكد أن حياة المرأة في هذا المجتمع، إما أن تستمر بخضوع للظلم أو أن تتوقف بالموت الذي تُقدم عليه بنفسها بعد أن أيقنت أنه ما من وسيلة سواه لإيقاف القهر أو يأتيها متعجلًا ليُخلّصها من الحياة السوداوية.

على غرار عزيزة أمير وبهيجة حافظ، أحكمت فاطمة رشدي سيطرتها على مفاصل فيلم «الزواج»، فهي المؤلفة والمخرجة والمنتجة والبطلة.

في الأفلام الثلاثة تتشابه الشخصيات الرئيسة، فالزوج شخصية أحادية تتصف بالفظاظة والأنانية والعبودية للأهواء والشهوات، يقابله حبيب مغلوب على أمره، بينما البطلة فتاة تئنُ من فرط الحيف الذي يطالها من كل اتجاه؛ الأسرة، والزوج، ومن خلفهما المجتمع الذي ينسج ظروف الإكراه عبر ثقافة ذكورية تعانق قانونًا مجحفًا.

أسندت فاطمة رشدي الأدوار التمثيلية في الفيلم إلى محمود المليجي، وعلي رشدي، ونجمة إبراهيم والممثلة الاستعراضية حكمت فهمي، وعزيز عيد، وعبد المجيد رشدي.

ينتمي فيلم «الزواج» إلى الميلودراما التي خيّمت على السواد الأعظم من أفلام السينما في أطوارها الأولى، وهي قالب درامي يقوم على صراع تقليدي بين مجموعة من الثنائيات الضدية كالخير والشر أو الفقر والثراء، تجسده قصص مأساوية تتصدرها شخصية مضطهدة تتعرض إلى كوارث متلاحقة، وسواء جاءت النهاية سعيدة أو تعيسة، سيصل إلى الجمهور رسالة وعظية. ولذلك كان الخطاب الطافي على السطح في الفيلم أخلاقيًا، اختصرته جملة دعائية على أحد الأفيشات «رواية أخلاقية مصرية تبحث في موضوع الزواج، وما ينتج عنه من الضرر لأسرنا الشرقية من محافظتها على التقاليد القديمة التي تهدد كيانها»، إلا أن هذا الخطاب يستتر تحته غضب مكتوم مما تعانيه المرأة في مجتمع يهيمن عليه الرجال.

يحمل الفيلم رقم 19 في قائمة الأفلام المصرية التي يُقدّر عددها الآن بما يزيد عن أربعة آلاف فيلم، وهو الثالث في مسيرة فاطمة رشدي.

تدور أحداث الفيلم حول سلمى التي تؤدي دورها فاطمة رشدي، وهي ابنة لرجل ثري تحب ابن عمها الفقير الذي يؤدي دوره محمود المليجي، وتأمل في الزواج به إلا أن الأب يقضي على أمنيتها بالرفض لاعتبارات طبقية، ثم يستخدم سلطته في تقرير مصير ابنته ويزوّجها قسرًا برجل ثري يدعي عزت، يؤدي دوره علي رشدي، ليبدأ فصل آخر تعِس في حياتها المُستَلبة.

تستكين سلمى للقهر لسبع سنوات، وقد ركنت إلى أن ملاذها في الحياة هو طفلتها، حتى يأتي الموت لينتزع آخر أسباب الاستكانة، ويصبح فقد الابنة نقطة تحوّل في حياتها، حيث تقرر الهروب والخروج من شرنقة الخوف والرضوخ.

المعالجة الميلودرامية لم تُفض إلى نهاية ينتصر فيها رمز الخير على الشر، فقد جاءت نهاية سلمى مأساوية، إذ فضلّت أن تموت دهسًا تحت عجلات سيارة مسرعة، على أن تستسلم إلى رجال البوليس المحدقين بها، لتنفيذ حكم «بيت الطاعة» الذي سيعيدها كرهًا إلى مصدر الإيذاء الأكبر في حياتها.

وعلى الرغم من ميلودرامية الفيلم، فلا يمكن نفي واقعية شتى صور القهر الذي تعيش تحت وطأته النساء وأبرزه الفيلم من خلال شخصية سلمى، لأن تراتبية السلطة داخل الأسرة حقيقة واقعة إلى يومنا هذا، وإجبار الفتيات على الزواج كان قائمًا حينها وما زال كذلك، والعنف ضد النساء على أيدي أزواجهن ما برح ثقافة شائعة، فضلًا عن أن الإشكالية القانونية الخاصة بــ «بيت الطاعة» تظل عالقة حتى الآن.

بحسب منظمة الصحة العالمية، فإن العنف الذي يمارسه الشريك المعاشر ضد شريكته، يعد مشكلة من المشكلات الصحية العمومية الكبرى وأحد انتهاكات حقوق الإنسان.

العنف الأسري مُؤيدًا بالقانون: أول فيلم يطرح إشكالية «بيت الطاعة»

أدخل المشرّع ما يسمى بـ«بيت الطاعة» إلى قانون الأحوال الشخصية المصري في العام 1929، ليُمكنّ القانون القاضي من إصدار قرار بإعادة المرأة إلى بيت الزوجية بالقوة الجبرية، بما يسمح باقتيادها تحت حراسة أمنية. وقد تمثّلت هذه المادة على الشاشة في مشهد تعقب سلمى (فاطمة رشدي) من قبل رجال الشرطة لتنفيذ قرار المحكمة.

يذكّر أن تعديلات أجريت على قانون الأحوال الشخصية المصري، فيما عُرِف بالقانون رقم 100 لسنة 1985، أوقف بموجبها شرط إعادة المرأة بالقوة الجبرية إلى بيت الزوجية، إلا أنه أبقى على ما يعرف بـ«إنذار الطاعة» الذي تتسلمه الزوجة على يد محضر.

نظرًا إلى أن فيلم «الزواج» من الأفلام المفقودة، فإن اختيار سلمى للموت بمحض إرادتها، بإلقاء نفسها أمام سيارة مسرعة ليس مؤكدًا بشكل تام، في ظل وجود مصادر تزعم بأن السيارة دهستها أثناء محاولتها الفرار من الشرطي. وفي الحالتين، فإن الصياغة السينمائية التي اختارتها فاطمة لهذه الإشكالية القانونية، جعلت «الطاعة» معادلًا لـ«العبودية»، وهي صياغة صادقة التعبير عن حقيقة ما يعنيه إجبار الزوجة على العيش مع زوج لا تطيقه.

لقد بعثت فاطمة برسالة مفادها أن القهر الذي ترزح تحت طائلته النساء في المجتمع «الذكوري»، يستمد شرعيته من قوانين يصيغها الذكور من أجل الحفاظ على بنية اجتماعية تعزز هيمنتهم وترسخ لخضوع النسوة. أما الموت، فهو نهاية ميلودرامية راقت للرائدات، وبقراءته في سياقه الزمني، فإنه يبدو كما لو كان اعترافًا بأن الواقع لم يترك منفذًا للخلاص من الظلم والجور الذكوري في ذلك الوقت سوى الموت المحتم.

لمطالعة الحلقات السابقة:

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية