هاجر الريسوني.. وما زالت أجساد النساء في العالم العربي ترزح تحت نير الأبوية
تفرض كثير من البلدان خاصة في منطقة الشرق الأوسط، وصايتها على أجساد النساء عبر قوانين تجرّم حقهن في امتلاكها، كما تفرض مظلة أخلاقية على تشريعاتها بدعوى تعزيز قيم المجتمع ومحاربة الفساد عبر ترسيخ الفضيلة، إلا أن هذه الفضيلة تقتصر في أغلب الأحيان على ما يتعلق بخيارات النساء الشخصية لا سيما فيما يخص الجسد.
تخضع حاليًا الصحافية المغربية هاجر الريسوني للمحاكمة، على خلفية إتهامها بإجراء عملية إجهاض غير قانونية، وذلك بعد توقيفها في الـ31 من أغسطس الماضي، عقب خروجها برفقة خطيبها من عيادة أحد أطباء أمراض النساء والتوليد في العاصمة المغربية الرباط.
الاتهام ليس الإجهاض غير القانوني فحسب، وإنما يرافقه اتهام بممارسة العلاقة الجنسية خارج إطار الزواج، وهو ما أثار سخطًا واسعًا بين ناشطات نسويات وحقوقيين وصحافيين إزاء ما اعتبروه انتهاكًا للحريات الفردية، مما دفعهم إلى إطلاق مجموعة وسوم عبر موقعي فيسبوك وتويتر، تضامنًا ودعمًا للريسوني مطالبين بالإفراج عنها وإنهاء محاكمتها، مثل وسم #الحرية_لهاجر_الريسوني، ووسم #هاجر_ليست_مجرمة. كما تجمّع العشرات أمام المحكمة الابتدائية بالعاصمة الرباط، بالتزامن مع جلستي المحاكمة اللتين انعقدتا في الـ9 والـ16 من سبتمبر الجاري، رافعين لافتات ومرددين هاتفات تعبر عن تضامنهم مع الصحافية العاملة بجريدة أخبار اليوم المستقلة.
التضامن مع الريسوني يُبطّن دفاعًا عن الحريات الفردية والخيارات الشخصية، إلى جانب حرية التعبير وحماية الصحافيين، وذلك في ضوء ما وصفه بعض النشطاء والصحافيين بالاستهداف السياسي بغطاء جنائي، استنادًا إلى سلسلة حوارات أجرتها الريسوني مع أحمد الزفزافي، والد ناصر الزفزافي زعيم حركة الاحتجاج في حِراك الريف في المغرب، ونشرتها الجريدة العاملة بها.
حِراك الريف هو سلسلة من الاحتجاجات في مدينة الحسيمة في منطقة الريف شمال المغرب، اشتعل في أكتوبر من العام 2016، وتعددت مطالبه وتوزعت ما بين حقوقية وأخرى قانونية، بالإضافة إلى مطالب اجتماعية واقتصادية.
سواء كان توقيف الريسوني لأسباب جنائية بحتة مثلما أعلنت النيابة العامة المغربية التي أفادت بأن التوقيف جاء بمحض الصدفة أثناء زيارتها لعيادة طبية تخضع للمراقبة، أو جاء في سياق حملة استهداف للصحافيين بحسب ما ذكره بيان منظمة العفو الدولية، بشأن بواعث قلق حول استهداف الريسوني من قبل السلطات المغربية لأسباب ترتبط بعملها كصحافية؛ إلا أن الثابت في الحالتين هو أن جسد المرأة وحياتها الجنسية يقعان تحت إرهاب مستمر، تختلف دوافعه ما بين تعزيز القيم المحافظة في المجتمع، وتطبيق قوانين رجعية، ومعارك حزبية تضع أجساد النساء في مرمى الابتزاز السياسي، ليُزكِّي كل ذلك في النهاية التسلط الذكوري على جنسانيتهن.
القانون الجنائي المغربي: هل يعترف بملكية النساء لأجسادهن؟
تُجلي مجموعة من مواد القانون الجنائي المغربي، التي تحاكم بموجبها هاجر الريسوني العقيدة الأبوية التي انطلق منها المشرّع، إذ يتبدى حرمان المرأة المطلق من الحرية الفردية وانتهاك حقوقها الجنسية والإنجابية، خاصة أنها لا تملك وفق المنصوص عليه في القانون، حق الاحتفاظ بالجنين أو التخلص منه سوى في حالة استثنائية يبرز فيها أهمية أكبر لحياة الجنين على حساب حرية المرأة. إذ ينص القانون على تجريم الإجهاض من خلال عشرة فصول ضمن الفرع الأول للباب الثامن المتعلق بالجنايات والجنح ضد نظام الأسرة والأخلاق العامة، وهي الفصول من 449 إلى 458.
وينص الفصل 449 على: من أجهض أو حاول إجهاض امرأة حبلى أو يظن أنها كذلك، برضاها أو بدونه، سواء كان ذلك بطعام أو شراب أو عقاقير أو تحايل أو عنف أو أية وسيلة أخرى، بالحبس من سنة إلى خمس سنوات، وغرامة من 200 إلى 500 درهم، وإذا نتج عن ذلك موتها، فعقوبته السجن من عشر إلى عشرين سنة.
بينما ينص الفصل 453 على: لا عقاب على الإجهاض إذا استوجبته ضرورة المحافظة على صحة الأم متى قام به علانية طبيب أو جراح بإذن من زوج. ولا يطالب بهذا الإذن إذا ارتأى الطبيب أن حياة الأم في خطر غير أنه يجب عليه أن يشعر بذلك الطبيب الرئيسي للعمالة أو الإقليم.
وينص الفصل 454 على معاقبة كل امرأة أجهضت نفسها عمدًا أو حاولت ذلك أو قبلت أن يجهضها شخص آخر، بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وغرامة من 200 إلى 500 درهم.
الإبقاء على هذه المواد يعكس ممانعة واضحة تجاه مطالبات لجنة الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW)، برفع تجريم الإجهاض وإلغاء القوانين المقيدة له بوصفها أحد أشكال التمييز ضد المرأة.
لجنة سيداو (CEDAW) هي هيئة مكوّنة من مجموعة خبراء مستقلين، ترصد تنفيذ اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW) التي صادق المغرب عليها في العام 1993.
التجريم يتعارض أيضًا وما جاء في بروتوكول حقوق المرأة في أفريقيا الملحق بالميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، والمعروف باسم «بروتوكول مابوتو»، وتحديدًا في المادة 14 الخاصة بالحقوق الصحية والإنجابية التي تنص في الفقرة (أ) على حق المرأة في التحكم بخصوبتها، وتنص في الفقرة (ب) على حقها في تقرير ما إذا كانت تريد الإنجاب أم لا، وتحديد عدد الأطفال، والمباعدة بين فترات ولادتهم.
بالإضافة إلى ذلك، يُجرِّم القانون الجنائي المغربي أي علاقة جنسية رضائية، ويصفها بالفساد، بقصد «الفساد الأخلاقي»، إذ تنص المادة 490 في الفرع السادس من الباب الثامن، والخاص بانتهاك الآداب، على: كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة زوجية، تكون جريمة فساد ويعاقب عليها بالحبس من شهر واحد إلى سنة.
«الآداب العامة» و«الأخلاق» من الكلمات الرئيسة في خطابات السلطة الأبوية، التي تتخذ منهما وسيلة لإخضاع النساء وقمع جنسانيتهن، ولأن النص القانوني جزء من منظومة متكاملة، فإن المتضرر الأكبر من نص كالمشار إليه هو المرأة، لأن تجريم ممارسة النساء للجنس لا يقتصر على قانون، وإنما يقف وراءه مجتمع يخشى تمرد النساء على القالب المستكين.
وفي إطار حِراك لا ينقطع من أجل هدم جدار الهيمنة الذكورية، شهد صيف العام 2012 تقدم تجمع يضم 22 جمعية حقوقية تحت اسم «ربيع الكرامة»، بمذكرة إلى وزارة العدل والحريات المغربية تتضمن مجموعة مطالب ترتبط بالحريات الفردية، ومن بينها رفع التجريم عن العلاقات الجنسية الرضائية بين البالغين. لكن وزير العدل والحريات حينئذٍ مصطفى الرميد، القيادي بحزب العدالة والتنمية الإسلامي، رفض المطلب ووصفه في كلمة أمام البرلمان المغربي بالفساد الذي يضرب في صميم مبادئ النظام العام المغربي.
رغم التجريم.. المغرب الأول عربيًا في عمليات الإجهاض
تكشف أرقام من مصادر عديدة أن التجريم لم يُحجّم الإجهاض، ولم يمنع النساء من الإقدام على إجراء عملياته، بل اضطرتهن القوانين المُقيّدة إلى اللجوء إلى الإجهاض السري، مما يعرض كثيرات إلى مخاطر قد تودي بالحياة. يثبت ذلك، أرقام أعلنت عنها الجمعية المغربية لتنظيم الأسرة تُظهِر أن عمليات الإجهاض في المغرب يصل عددها إلى 80 ألف حالة سنويًا، فضلًا عن أرقام الجمعية المغربية لمحاربة الإجهاض السري التي تفيد بأن عدد حالات الإجهاض يتراوح بين 600 و800 حالة يوميًا.
علاوة على ذلك، كشف موقع Fact slides الأمريكي في العام 2017، أن المغرب هو البلد الأول عربيًا في عمليات الإجهاض ويحتل المرتبة الثامنة عالميًا رغم التجريم، متفوقًا على تونس صاحبة المركز الثاني عربيًا والتاسع عالميًا.
يذكر أن تونس هي الدولة العربية الأكثر تحررًا تجاه الإجهاض على الصعيد القانوني، إذ تسمح المجلة الجزائية التونسية بالإجهاض خلال الأشهر الثلاثة الأولى من دون حاجة إلى إثبات ضرر أو زواج، كما يُمكن للمرأة أن تجهض بعد هذه المدة إذا كان استمرار الحمل يُشكّل خطورة على صحتها أو إذا كان الجنين يعاني من مرض أو آفة خطيرة.
في انتظار التعديل: معالجة الأزمة بفلسفة أبوية
خلال الربع الأول من العام 2015، أثارت دعوة إلى تقنين الإجهاض، أطلقتها منظمات حقوقية ونسوية، حالة من الجدل في ظل رفض شديد وصارم من جانب حزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي يتزعم السلطة التنفيذية في البلاد. وقد ساق النقاش المحتدم إلى تدخل الملك محمد السادس في شهر مارس (العام 2015)، وتكليف كل من وزير العدل والحريات ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية ورئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان بتشكيل لجنة مشاورات بهدف مراجعة القوانين المُنظِّمة للإجهاض في المملكة.
وقد أشار بيان الديوان الملكي الذي تضمن قرار تشكيل اللجنة، إلى أن الملك طلب من أعضاء اللجنة مراجعة القانون «في إطار احترام تعاليم الدين الإسلامي الحنيف»، ليُنبِئ ذلك بأن الإباحة ستكون مُقيّدة. وبالفعل خلصت مشاورات اللجنة التي استمرت لنحو شهرين إلى إباحة الإجهاض في ثلاث حالات فقط، وهي بحسب ما نشرته صحف مغربية: إذا شكّل الحمل خطرًا على حياة الأم، وإذا حدث الحمل نتيجة اغتصاب أو زنا محارم (اغتصاب المحارم)، وإذا لاحظ الأطباء تشوّهات خلقية خطيرة وأمراض صعبة تهدد حياة الجنين.
لم يلق مشروع القانون قبولًا لدى قطاع واسع من المنظمات النسوية وفي مقدمتها الجمعية المغربية لمكافحة الإجهاض السري، التي رأت أن الاستثناءات الثلاثة لن تحد من عمليات الإجهاض السري المنتشرة في المغرب، خاصة أن المشروع لم يشمل حق القاصرات في الإجهاض، أو الحق في إنهاء الحمل غير المنتظر الذي قد يسبب اكتئابًا يقود إلى الانتحار، ولم يبح الإجهاض للفتاة المُهددة بالقتل على يد عائلتها أو المهددة بالطرد من المنزل.
في المقابل، استقبل تيار الإسلام السياسي مشروع القانون بارتياح، وصادقت عليه الحكومة ذات التوجهات الإسلامية تحت قيادة عبد الإله بن كيران، أحد أبرز مؤسسي حزب العدالة والتنمية، ليعقب ذلك دخول المشروع إلى لجنة العدل والتشريع في البرلمان. وعلى الرغم من أن المشروع جاء في أجواء تستعجل خروجه إلى النور، إلا أنه ما زال في طور المناقشة داخل اللجنة حتى الآن.
أعادت قضية هاجر الريسوني النقاش حول مشروع القانون ومدى جدواه، خاصة أن هذه الحادثة تأتي كدليل دامغ على أن النص المقترح لن يحمي كثير من النساء المغربيات من الوقوع تحت طالة القانون، لأن الاستثناءات الواردة فيه لا تخلخل تقييدًا ولا تُقرُّ بالخيارات الحرّة للنساء.