علمونا أنه عبء وتحرره تهمة: هل في الابتعاد عن «العائلة» سبيل لاستعادة السيادة على الجسد؟
يختزل المجتمع الخاضع للهيمنة الذكورية المرأة في الجسد، ولا يكتفي بذلك فحسب بل يسلبها حقها في التصرف في هذا الجسد بناءً على خياراتها وتفضيلاتها.
في إطار الأنماط والقوالب التي يُشكّلها المتخيل الذكوري، تُحرَم النساء من السيادة على أجسادهن، ويتم التبرير لانتهاك هذه الأجساد دينيًا وتشريعيًا، ولذلك تتسامح القوانين في بعض البلدان مع جرائم الشرف من خلال ما يسمى بــ«العذر المخفف» الذي يعود بالأصل إلى قانون العقوبات الفرنسي القديم، الصادر في العام 1810، وتستند إليه العديد من الدول العربية في تشريعاتها، كما يستمر سيل الفتاوى التي تربط بين ملابس المرأة والتحرش الجنسي لتلزمها بزي معين حتى يحق لها التمتع بالأمان والحماية، فضلًا عن التمسك بممارسة تشويه الأعضاء التناسلية (ختان الإناث) في ثلاثين بلدًا أغلبها في القارة الإفريقية وعلى رأسها مصر، لتبقى السيطرة الذكورية على الحياة الجنسية للإناث محفوظة ويدوم قمع أجسادهن ورغباتها.
طالما بحثت الحركة النسوية حول العالم، فيما تعنيه نشأة الجسد الأنثوي في كنف أسرة راضخة لسلطة المجتمع الذكوري الذي تشتد شوكته بسلطة الدين، وكيف يرسخ كل ذلك داخل المرأة أنها تحمل جسدًا تمتلكه الأسرة ويتحكم فيه المجتمع، ولا يحق لها التصرف فيه. هذه التعقيدات نتناولها في أحاديث متفرقة مع فتيات قررن أن يفتحن خزاناتهن الممتلئة بالتخوّفات والتوجسات التي نتشاركها كنساء نعيش في مجتمع تسوده القواعد المحافظة والأبوية.
«كان خلعي للحجاب الذي كنت قد ارتديته منصاعةً لقرار اتخذته أسرتي قبل سنوات، واحدًا من قراراتي الأولى عقب استقلالي. ومع ذلك، لا أشعر بامتلاكي لجسدي ولا أظن أنني أتعامل معه بحرية بل ما زلت أخشاه.»
هكذا بدأت سحر حديثها معنا حول علاقتها المعقدة بجسدها، خاصة فيما بعد استقرارها في القاهرة تاركةً أسرتها في الإسكندرية، لتطرق أبواب حياة جديدة تنقب فيها عن الاستقلالية المعنوية والمادية.
ترى سحر أن انفصالها عن أسرتها مكانيًا وماديًا، ساعدها في أن تحدد مظهرها الذي تريده وأن تختار ملابسها من دون أن تنتظر موافقةً من أحد، إلا أنه لم يغير كثيرًا في علاقتها بجسدها الذي تعتقد أنها تجهل الكثير عنه.
تقول سحر إنها ما زالت تشعر بالخوف من وعلى هذا الجسد، ولا تنكر أنها لم تتخلص بعد من المنطق المحافظ في التعامل مع الجسد الأنثوى، فما فتئت تراه شيئًا أو بالأحرى عبئًا يتعين عليها أن تحافظ عليه حتى تتزوج، ولذلك لم تقدم على إقامة علاقة جنسية مع أي رجل ممن ارتبطت بهم في فترات سابقة.
علاقات سحر بالرجال قصيرة الأمد، وتبرر ذلك بأنها لم تشعر بالثقة تجاههم، وتقول «لم يكن بينهم من أثق به، خاصة أنني أدركت جيدًا معنى أن أكون فتاة مستقلة في مجتمع ذكوري كهذا.»
في كل مرة تعود سحر إلى أسرتها في زيارة، يتأكد في قرارة نفسها أنه ما من طريق يجمعهم معًا، لأن أسرتها ما برحت تتمسك بالفكر المحافظ والنظرة النمطية للمرأة، ولا تنفي صاحبة الـ27 عامًا أن ذلك يضعها في حالة خوف دائمة من إطلاق العنان لجسدها.
أما مها التي انتقلت من مدينة الشرقية إلى العاصمة لتعمل بمجال العقارات، توقن أنها صارت أكثر تحررًا في التعامل مع جسدها منذ استقلالها عن أسرتها.
بعد الانفصال عن الأسرة، لم يعد هناك من يملي عليها شروطًا تخص مظهرها أو أفعالها وسلوكياتها، وهي شروط لم يكن مصدرها أفراد أسرتها وحدهم، وإنما يشاركهم في فرضها الجيران والمارة. لقد أصبحت مها أكثر تصالحًا مع جسدها، وعلى عكس سحر فإنها لا تعتقد في وجوب الحفاظ على عذريته من أجل الزواج أو خوفًا من رد فعل أسرتها، «لقد كان التخلص من العذرية جزءًا من استرداد حريتي المسلوبة، لأنه جسدي وحدي واستمتاعي به حقي.»
في الوقت ذاته، لا تخفي مها أنها فقدت جانبًا من شعورها بالأمان بعد التخلص من العذرية، إلا أنها دائمًا ما تُذكّر نفسها بأن الحرية لها ثمن ومن اختارها لا بد أن يدفعه.
تعتقد مها أن الشعور بالخوف سببه المجتمع الذي يقوم على فكرة الخوف، «عائلتك يمكنها أن تخسرك للأبد أو أن تؤذيك بسبب المجتمع.»
قررت سارة أن تعيش بعيدًا عن أسرتها، وتستقل ماديًا وقبل ذلك معنويًا، إلا أن قرارها لم يكن من بين مبرراته فرصة دراسة أو عمل بالعاصمة التي تجتذب الطامحين، لأنها تعيش وأسرتها في القاهرة، وإنما جاء قرارها بحثًا عن حرية مفقودة بين أسرة تحكم قبضتها على كل تفصيلة في حياتها.
رفضت الأسرة قرارها، فأصرّت سارة على ما تعتقده حقًا لها وانتقلت للعيش بمفردها من دون أن تُعلمهم بمكان إقامتها. لكن ذلك عرّضها وما زال للتعقب والمراقبة من جانبهم، ولذلك فإنها تخطط للسفر خارج مصر نهائيًا.
«الشعور بامتلاكي لجسدي هو أول مكتسب من مكتسبات انفصالي عن أسرتي»، تقول سارة إنها تخلصت من شوائب التربية ذات الصبغة الدينية التي جعلتها ترتدي الحجاب قسرًا، وفرضت عليها نمطًا محافظًا على صعيد المظهر والسلوك.
في حديثها معنا، تؤكد سارة أن علاقتها بجسدها تطوّرت وتعمّقت، فصار يخصها وحدها وأضحت ترتدي ما تريده وتتحرك بحرية، ولم تعد العذرية هاجسًا.
أما تسنيم التي خضعت لكشف عذرية عندما كانت بالمرحلة الثانوية، بعد أن علمت أسرتها بأنها على علاقة بشاب جامعي، وأجبرتها أمها على ارتداء الحجاب بعد ذلك، تقول «أعتقد أنني لا أخشى شيئًا في الحياة أكثر من جسدي. لقد تربيت على أن تسنيم هي هذا الجسد، وكبر معي شعور بأنني محبوسة داخله وهو نفسه محبوس في قالب زجاجي مُحرّم عليه التنفس والانطلاق واللذة.»
لم تستقل تسنيم البالغة من العمر 26 عامًا عن أسرتها، لأنها تعيش في القاهرة وبالتالي لم تجد مبررًا يقبله الأهل حتى تترك المنزل وتنفصل عنهم، «للآسف، استقلال القاهريات عن أسرهن أصعب من استقلال الفتيات في المحافظات الأخرى اللاتي ينتقلن إلى العاصمة معوّلات على الفرص الدراسية والمهنية.»
تعلم تسنيم أن مجرد طرح الفكرة قد يعرضها لاعتداء، ولكي جسدها بالنار من جديد مثلما سبق أن حدث، عندما أخبرت أسرتها بأنها تريد خلع الحجاب وحينما شاهدت أمها صورًا لها وهي ترتدي لباس بحر مكشوف (قطعة واحدة)، رغم أنها كانت في مسبح مخصص للنساء برفقة صديقاتها.
العذرية كلمة تخيف تسنيم، «قد تبدو مخاوفي مستفزة لبعض الفتيات اللاتي تمكن بالفعل من تجاوزها، وربما لو كان لدي فرصة للابتعاد عن أسرتي والعيش وحدي لما استمر الخوف ينمو بداخلي حتى الآن.»
وتتابع «أعتقد أن هناك كثيرات في هذا المجتمع مثلي حتى إن كن انفصلن عن أسرهن. يسمعن عن حرية الجسد ولا يعرفنها، تتردد على مسامعهن كلمات من عينة امتلاك الجسد وحرية التصرف فيه، لكنهن أبدًا لم يختبرن المشاعر التي ترتبط بها، ولن يكون لديهن هذه الفرصة لأنهن ولدن ونشأن وتربين على أن أجسادهن عبء وطريق قد يقودهن إلى الهلاك.»
تم تغيير الأسماء نزولًا عند رغبة صاحباتها