لا بد أن نسعد ونحتفي بانتصاراتنا لأنها لا تأتي إلا بعد نضال طويل وعنيد، إلا أن الانتصار لا يعني انتهاء الحِراك بل إنه يمثل حدًا فاصلًا بين معركة انقضت وأخرى لتبدأ.

انتصار جديد تحقق للنساء السعوديات لا سيما الناشطات اللاتي أطلقن حملة إلكترونية عبر موقع التواصل الاجتماعي تويتر، امتدت لـ1114 يومًا (بدأت في العام 2016) للمطالبة بإسقاط نظام الولاية عن المرأة السعودية. وكان وسم #سعوديات_نطالب_باسقاط_الولايه، هو شعار الحملة الذي لم تنقطع الناشطات عن التدوين والزقزقة باستخدامه على مدار ثلاث سنوات، ومع كل يوم يمر على الحملة كانت المستخدمات يضفن إليه رقم اليوم حتى وصل إلى 1114 يومًا. وقد سيطرت أجواء احتفالية على تغريدات اليوم الأخير للحملة بعد الإعلان عن تعديلات في أنظمة وثائق السفر والأحوال المدنية والعمل، تُسقط ولاية الرجل على المرأة في عدد من الأمور أهمها استخراج جواز السفر والخروج من البلاد.

وجاء الانتصار على النحو التالي..

بعد أكثر من أربعين عامًا على رسوخ نظام ولاية الرجل على المرأة، أصدرت المملكة العربية السعودية، يوم الخميس الموافق الأول من أغسطس، قرارًا يقضي بتعديل نظام وثائق السفر ونظام الأحوال المدنية ونظام العمل، بما يسمح للنساء اللاتي تجاوزن سن الـ 21 عامًا باستخراج جوازات السفر ومغادرة البلاد من دون موافقة ولي الأمر التي كانت إلزامية، فضلًا عن تعزيز حقهن في شغل الوظائف من دون تمييز على أساس الجنس.

وكانت­­­ صحيفة «عكاظ» السعودية هي أول منصة إعلامية سعودية تنشر خبرًا بشأن التعديلات التي أجريت، وأفادت الصحيفة  في خبرها المعنون بــ«لا ولاية على المرأة في السفر.. والزوجة رب الأسرة»، بأنه بموجب التعديلات الجديدة أصبح للمرأة الحقوق ذاتها التي يكفلها القانون للرجل فيما يتعلق بالسفر. كما نشرت جريدة «أم القرى» الجريدة الرسمية للدولة، يوم الجمعة الموافق الـثاني من أغسطس، تفاصيل التعديلات التي أقرها مجلس الوزراء، وأبرزها تعديل المادة الرابعة من نظام وثائق السفر التي كانت تنص على «يتم إصدار جواز سفر مستقل للخاضعين لولاية أو وصاية أو قوامة وفقًا لما تحدده اللائحة التنفيذية»، وبعد التعديل صار النص «يكون منح جواز السفر وتصريح السفر للخاضعين للحضانة والقصر المتوفى وليهم، وفقًا لما تحدده اللائحة التنفيذية.»

وعُدّلت المادة 33 من نظام الأحوال المدنية، لتقضي بأحقية الأم مثل الأب في التبليغ عن المولود، بعد أن كان مقتصرًا في النص القديم على الرجل. كما خضعت المادة 91 من النظام نفسه للتعديل، ليصبح نصها «يعد رب الأسرة في مجال تطبيق هذا النظام هو الأب أو الأم بالنسبة إلى الأولاد القصر.»

علاوة على ذلك، أعطت التعديلات الجديدة للزوجة حق الإبلاغ عن حالات الزواج أو الطلاق أو المخالعة، وهو الحق الذي كان القانون السعودي يُقصره على الرجل وحده، وأضحى نص المادة 47 «على الزوج أو الزوجة التبليغ عن حالة الزواج أو الطلاق أو الرجعة أو التطليق أو المخالعة، ويجوز لوالد الزوج أو الزوجة أو أحد أقاربهما القيام بواجب التبليغ.»

أما أبرز المواد المُعدّلة في نظام العمل، فهي المادة الثالثة التي صار نصها «العمل حق للمواطن، لا يجوز لغيره ممارسته إلا بعد توافر الشروط المنصوص عليها في النظام، والمواطنون متساوون في حق العمل دون تمييز على أساس الجنس أو الإعاقة أو السن أو أي شكل من أشكال التمييز الأخرى سواء أثناء أداء العمل أو عند التوظيف أو الإعلان عنه.»

كما أدخِل تعديل على المادة 155، فأضحى نصها «لا يجوز لصاحب العمل فصل العاملة أو إنذارها بالفصل أثناء حملها أو تمتعها بإجازة الوضع، ويشمل ذلك مدة مرضها الناشئ عن أي منهما، على أن يُثبت المرض بشهادة طبية معتمدة، وأن لا تتجاوز مدة غيابها (مئة وثمانين) يومًا في السنة سواءً كانت متصلة أم متفرقة.»

أخيرًا!

بكلمة «أخيــرًا»، احتفى قطاع عريض من السعوديات عبر موقع تويتر ذي الشعبية الواسعة في المملكة، بالتعديلات التي جاءت لتكلل حِراكهن الذي برز بالتزامن مع اشتعال الثورات العربية بالنجاح. وتعود بداية هذا الحِراك إلى فبراير من العام 2011 عندما دشنت نساء سعوديات مجموعة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك (GROUP ON FACEBOOK)، بعنوان «المرأة السعودية تريد إسقاط وصاية الرجل عليهـا»، وبدأت عضواته يشاركن بعضهن البعض القصص والآراء والأسانيد الدينية التي تدحض ما رُسّخ له طويلًا في العقول عن حق الرجل في الولاية على المرأة، إلا أن الحِراك تبلور مع حملة #سعوديات_نطالب_باسقاط_الولاية التي احتضنها موقع تويتر لأكثر من ثلاث سنوات، وانتقلت سريعًا من الفضاء الإلكتروني إلى أرض الواقع عندما قررت الناشطة والأستاذة الجامعية عزيزة اليوسف، إطلاق عريضة موجهة إلى الحكومة السعودية للمطالبة بانهاء نظام ولاية الرجل على المرأة واعتبارها شخصًا بالغًا بمجرد أن تتم عامها الحادي والعشرين، وذلك بعد أسابيع معدودة من انطلاق الحملة. وقد حظيت العريضة بما يزيد عن 14 ألف توقيع. ومع ذلك، لم تلتفت السلطات السعودية إلى الأمر ولم تُقّدم ردًا بالسلب أو بالإيجاب.

بالتزامن مع إطلاق العريضة في سبتمبر من العام 2016، ظهر وسم #أنا_ولية_نفسي على موقع تويتر ليعلن عن حملة أخرى تصب في الاتجاه نفسه، ولا تنحصر في التدوين الإلكتروني إذ تعدى انتشارها حدود الإنترنت. وقد عبّرت النساء حينئذٍ عن احتجاجهن من خلال تصميم لامرأة تغطي وجهها بالشماغ السعودي وغطاء رأس الرجل التقليدي، بينما تظهر كلمات «أنا ولية نفسي» بديلة عن الفم.

أحدثت الحملة صدى واسعًا، حيث انتشر التصميم على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل لافت، وطُبِع على منشورات ورقية وعلى قمصان نسائية وأساور.

الاستجابة المبهمة جاءت في مايو من العام 2017، عندما أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز أمرًا ملكيًا يوجه الجهات الحكومية بتمكين المرأة من الخدمات من دون اشتراط موافقة ولي أمرها، ما لم يكن هناك سند نظامي لهذا الطلب وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية. لكن ذلك لم يغير شيئًا في مجريات الأمور، لأن المؤسسات الحكومية تطلب إذن ولي الأمر وفقًا للمنصوص عليه في الأنظمة واللوائح (قبل أن تدخل عليها التعديلات الأخيرة).

من رحم المعاناة ولد الانتصار

تهدف خطوة إلغاء الولاية على المرأة في شؤون السفر تحديدًا، إلى تخفيف حدة الانتقادات الحقوقية المُوجهة إلى السعودية بشأن نظام الولاية، خاصة أن السنوات الثلاث الأخيرة شهدت زيادة في حالات طلب اللجوء إلى بلدان غربية من جانب فتيات سعوديات، على خلفية العنف الذي يتعرضن له على يد ذويهن.

ويأتي من بين أبرز هذه الوقائع، محاولة دينا علي سلوم في العام 2017 الهروب إلى أستراليا لطلب اللجوء والتي انتهت بالفشل، بعد أن أوقفتها السلطات الفليبينة خلال مرورها بمطار مانيلا وأصرّت على ترحيلها.

أعيدت الشابة البالغة وقتها 24 عامًا، إلى السعودية برفقة أفراد من عائلتها رغمًا عن إرادتها، بعد أن أخفقت في الخلاص من مساعيهم لتزويجها قسريًا. ومنذ عودتها، لا تتوفر معلومات بشأن وضعها النفسي والجسدي أو مكان تواجدها، وبالطبع لم تتمكن المراكز والمؤسسات الحقوقية من التواصل معها.

أما رهف القنون البالغة من العمر 19 عامًا، فقد كانت قضية هروبها من أسرتها وحصولها على اللجوء في كندا بداية العام الجاري (2019)، سببًا في تصاعد الضغط من جانب سعوديات وسعوديين من ناحية والمجتمع الدولي من ناحية أخرى، للدفع بالسلطات السعودية إلى إلغاء نظام الولاية، بعد أن أعلنت الفتاة عبر حسابها على موقع تويتر –أثناء احتجازها بمطار بانكوك في تايلاند- أنها هربت بسبب العنف الأسري مطالبة بحمايتها من نهاية محتومة إذا ما تم ترحيلها إلى السعودية.

بعد أيام من ذيوع التغريدات والمقاطع التي نشرتها رهف، دخلت الحكومة الكندية على الخط وأعلنت قبول طلب اللجوء وأرسلت وزيرة خارجيتها إلى المطار لاستقبالها والترحيب بها في «وطنها الجديد».

وفي شهر مارس الماضي، حصلت شقيقتان سعوديتان على اللجوء في بلد لم يعلنا عنها، بعد اختبائهما لعدة شهور في هونغ كونغ، التابعة للصين.

بسبب هذه الوقائع، دخل الحِراك منعطفًا مفصليًا لسببين رئيسين، أولهما هو إماطة اللثام وتعرية الحقيقة أمام العالم، رغم محاولات النظام السعودي إبعاد الأنظار عنها والمراوغة بشأنها وكتم أصوات النساء اللاتي يئنن تحت وطأتها، فانتقل التفاعل الدولي من البيانات والتقارير إلى استجابات أكثر وأسرع – نسبيًا- لطلبات لجوء الباحثات عن ملاذ آمن، فضلًا عن الاحتفاء بهن على مستويات رسمية ليشتد الضغط على النظام السعودي. أما السبب الثاني هو الانتقال من مرحلة الصرخات التي تترجمها حروف وكلمات إلى تمرد معلن على الأرض وانتزاع فعليّ للحق في الوصاية على النفس من دون ولي مهما كانت تكلفة هذا الخيار.

لم تسقط الولاية بعد

كل حق يُنتزَع بالضغط والمقاومة والآلم والفقد، ولا يمكن لسلطة تتمسك بالتراتبية الأبوية أن تعطي النساء حقوقهن طواعية بل إنها تضطر إلى ذلك، وعادةً ما تعطيها لهن منقوصة أو تسمح بالالتفاف عليها، وهذا ينطبق أيضًا على سلطة تروّج لكونها سلطة تقود بلادها إلى التحرر والانفتاح بعد عقود طويلة من التشدد والانغلاق. ولذلك، فإن القرار الأخير لم يُسقط الولاية كاملة، وإنما جاء كما لو كان إذعانًا للضغوط والانتقادات في الداخل والخارج (وبالأخص في العالم الغربي)، إزاء الولاية على المرأة خاصة في مسائل التنقل والسفر.

أما الولاية على الزواج والطلاق لم تكن مشمولة في التعديلات وهو ما يعني أن حيوات النساء مافتئت في قبضة الرجال، يقررون من يكون شريكها ويكرهونها على الزواج، ومُباح لهم حرمانها من الخروج من شرنقة زواج فاشل. كما أن الولي ما برح مُمكّنًا من تقرير مصير السجينة بعد انقضاء مدة السجن، إذ لا تستطيع المرأة الخروج منه إذ رفض ولي الأمر الحضور لاستلامها وترفض المحكمة إخراجها من دون موافقته، وبالتالي قد تعيش المرأة سجينة لنهاية عمرها داخل دور أو مراكز الإصلاح لأن الولي قرر حرمانها من حقها في العودة إلى حياتها الطبيعية.

وهل تستجيب القبائل إلى التغيير؟

ما زالت تركيبة النظام الاجتماعي السعودي تعلي من شأن القبيلة وتُقدّس أعرافها. وفي ظل النظام القبلي، فإن النساء خاضعات للرجال تابعات لهم، وفي الذهنية القبلية تُختزل النساء في الرحم الذي يحمل الجنين والثدي الذي يرضع المولود. ولذلك، فإن الصدام المستمر بين الأعراف القبلية والقرارات التي تفكك من قبضة الرجل على المرأة، يثبت أن الأولى هي الأقوى لأن قيود القبيلة تحول دون استفادة كثير من السعوديات من هذه الإجراءات التي من المفترض أن تمكنهن من حقوق كقيادة السيارة، وحضور المباريات في الملاعب، وعضوية مجلس الشورى، وحضور الحفلات الغنائية المختلطة، وأخيرًا السفر. هذه الحقيقة دفعت بناشطات إلى تدشين وسم #سعوديات_نطلب_اسقاط_القبيله على موقع تويتر، ليتصدر قائمة الوسوم الأكثر تفاعلًا في السعودية، وذلك بعد أيام من صدور التعديلات الأخيرة.

لم تكن التغريدات المؤيدة للمطلب وحدها هي السبب في تصدر الوسم، إذ أن المعارضين للدعوة استخدموا الوسم ذاته للتشكيك في كل من تقف وراءها، وللهجوم على من يدعمنها، ولاتهامهن بالعمالة لدول أجنبية. وجدير بالذكر أن حدة الهجوم على هذا المطلب تزيد عن غيره، لما يحيط بقضية الولاء إلى القبيلة من حساسية وتعقيد في دولة تأسست على النظام القبلي.

من تقدمن الصفوف.. لا يمكنهن الاحتفال

كان صدور قرار يسقط الولاية عن المرأة ولو في أمور محددة، حلمًا دافعت عنه وحاربت من أجله ناشطات يقبعن حاليًا خلف قضبان السجون. هؤلاء لا يمكنهن الاحتفال بما يثمر عنه نضالهن، فقد اعتقلتهن السلطات في الـ15 من مايو من العام 2018، قبل أن يدخل قرار تمكين النساء من قيادة السيارة حيز التنفيذ (24 يونيو من العام 2018)، وهو الحق الذي خضن معارك من أجل انتزاعه،  بلغت حد تحدي الحظر وقيادة السيارات، وتوثيق ذلك عبر التصوير والنشر على مواقع التواصل الاجتماعي بغية تشجيع أخريات على الإقدام على الخطوة نفسها، من دون أن يأبهن بعواقب ذلك. بل إن إيقافهن واحتجازهن ما بين أيام وبضع شهور على خلفية هذه التحركات، لم يطفئ شعلة احتجاجهن ضد انتهاك حقوقهن المهدرة تحت وطأة نظام الولاية.

الناشطة السعودية “لجين الهذلول”

مضى أكثر من عام على احتجاز هؤلاء المدافعات اللاتي وجّهت لهن المحكمة تهمة التواصل مع أجهزة استخبارات أجنبية ووصفهن الإعلام الرسمي بــ «عميلات السفارات»، وعلى الرغم من أن السلطات أفرجت عن ثلاث ناشطات بعد أيام من حملة الاعتقال لدواعي كبر السن، ثم أفرجت بشكل مؤقت عن أربع أخريات بعد قبول التماسهن، فإنها تصر على الإبقاء على أربع ناشطات من بينهن لجين الهذلول الحاصلة على جائزة «بيرتا أند كارل بنز- Bertha und Carl Benz» الألمانية، تقديرًا لشجاعتها ودفاعها عن حق المرأة في قيادة السيارة، والحاضرة في قائمة مجلة تايم الأمريكية «TIME» للعام 2019 للشخصيات المئة الأكثر تأثيرًا في العالم، ويأتي اختيارها اعترافًا بمساهمتها الكبيرة في الضغط من أجل اتخاذ قرارات لصالح المرأة السعودية، من غير المعلوم متى ستستفيد لجين نفسها منها، كما يمثل اختيارها ضمن القائمة دعمًا لها في مواجهة ما تتعرض له تحت ظروف اعتقال شديدة الصعوبة، من غير المعروف أيضًا متى تزول.