بعد أن فتحت عزيزة أمير أبواب الإنتاج والإخراج السينمائي أمام النساء في مصر والعالم العربي، بفيلم «ليلى –1927» الذي أنتجته وأخرجته واشتركت في كتابته وقامت ببطولته، لحقت بها بهيجة حافظ التي دخلت إلى عالم السينما كممثلة ومؤلفة موسيقية في البداية، عندما اختارها المخرج محمد كريم لبطولة فيلم «زينب- 1930»، المأخوذ عن قصة بالاسم نفسه للدكتور محمد حسين هيكل، كما نفذت الموسيقى التصويرية للفيلم، الذي عرض لأول مرة في إبريل من العام 1930 في سينما متروبول في القاهرة.

دفعها نجاح الفيلم على صعيدي الجذب الجماهيري واستقباله الصحفي، إلى اتخاذ قرار بتدشين شركة «الفنار» السينمائية لتبدأ رحلة استثنائية في العمل السينمائي، حيث امتهنت التمثيل والإخراج والتأليف والمونتاج وبالطبع الإنتاج وهي المساحات التي انشغلت بها رائدات السينما المصرية. لكن نشاط بهيجة امتد ليشمل الموسيقى التصويرية وتصميم الأزياء، لتكون أول امرأة تقوم بالمهمتين في السينما العربية.

تجربة بهيجة حافظ الإخراجية الأولى كانت مع النسخة الناطقة لفيلم «الضحايا» التي صدرت في العام 1935، بعد أن خرجت نسخته الصامتة إلى النور في العام 1932، حيث استقبلتها دار سينما فؤاد بالقاهرة في الـ28 من نوفمبر قبل عرضها لاحقًا في شهر ديسمبر بمدينة الإسكندرية. كان لبهيجة رؤية متكاملة بشأن الفيلم، المأخوذ عن قصة للكاتب فكري أباظة، وكانت تسعى إلى تنفيذها بالتوافق مع المخرج الإيطالي ماريو فولبي بديلًا عن مخرج النسخة الصامتة إبراهيم لما، إلا أن خلافات نشبت إبان التصوير، فقررت أن تستكمل إخراج الفيلم وحدها.

بهيجة في حوارها مع الإعلامية جيلان حمزة مقدمة برنامج «في المرآة»، تحدثت عن تجربتها الإخراجية متمثلةً في فيلم «ليلى بنت الصحراء» الذي أنتجته في العام 1937. وعلى الأرجح، فإن السبب في ذلك هو أنها قررت إخراج «ليلى بنت الصحراء» في مرحلة الإعداد له، بعد أن سافرت لدراسة أسس الإخراج والمونتاج في الخارج، وعادت لتطبق ما تعلمته خاصة بعد أن اكتشفت أن مستواها يتفوق على مستوى المخرجين الموجودين على الساحة آنئذ، على حد تعبيرها، وبالتالي فقد كانت مخرجة الفيلم بإرادة كاملة وقرار مسبق وليس اضطرارًا كما جرت الأمور في فيلم «الضحايا».

للآسف فيلم «الضحايا» الناطق من الأفلام المصرية النادرة وظل مفقودًا حتى العام 1995 عندما ظهرت نسخة له بين الأفلام التي عرضها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي خلال فعالياته، إلا أن هذه النسخة غير متوفرة للجمهور حتى الآن ولو عبر مكتبات إلكترونية تسمح بمشاهدته بمقابل مادي، والمتاح هو مقطع قصير جدًا نشرته مواقع إلكترونية تعني بالحفاظ على التراث السينمائي المصري. أما النسخة الصامتة فلا يوجد أثر لها.

كان الإخراج في أفلام المرحلة المبكرة ترجمة بصرية للنص المكتوب، يغيب عنها الحرفية البصرية بشكل كبير. ويتجسد هذا في المقطع المتوفر من فيلم «الضحايا» الذي يكشف أيضًا التداخل القوي بين الروائي والوثائقي، وهو ما يعكس طبيعة السينما في بداياتها، حيث بدأت تسجيلية ثم خرجت السينما الروائية من رحم الأولى تدريجيًا.

يبدأ المقطع بجملة كُتِبت على الشاشة باللغتين العربية والفرنسية «في جهة أبو قير حيث يكثر صيد الأسماك وحيث تشتد الحراسة هناك»، لتلحق بها لقطات تحوّل المكتوب إلى مرئي، إذ تظهر أمواج البحر المتوسط، ثم صياد يبسط شباك الصيد، لتلحق بها لقطة تعرض فحص الأسماك بعد اصطيادها، ومن بعدها مراكب الصيد في البحر. وتستمر هذه اللقطات لنحو دقيقة ونصف من إجمالي 3:42 دقيقة هي مدة المقطع المتوفر كاملًا.

أما المشهد الذي تظهر فيه بهيجة حافظ (التي تؤدي شخصية باسم بهيجة أيضًا)، فيعرض العنف اللفظي والإهانة الذين تتعرض لهما من قبل زوجها الذي يدعى برعي، ويؤدي دوره الممثل زكي رستم.

القضية الرئيسة هي تجارة المخدرات، واختارتها بهيجة موضوعًا لفيلمها بعد أن تعرفت بنفسها إلى قصص عن تجار مخدرات وشباب مدمنين في مدينة الإسكندرية التي عاشت فيها أغلب حياتها قبل الدخول إلى عالم السينما، وقد وقع اختيارها على قصة كتبها الأديب محمد فكري أباظة تتناول الموضوع بزاوية راقت لها.

تعرّض الفيلم للقضية من خلال قصة امرأة تعاني من سلسلة متصلة ومتواصلة من حوادث العنف الأسري، بدايتها مع تقاليد حالت دون زواجها بمن تحب لأنها الأخت الصغرى، إذ اعتادت الأسر على تزويج الابنة الكبرى أولًا، ثم يطل العنف بوجهه مجددًا مع زواجها برجل فظ وعنيف اضطرارًا، ولا يختفي العنف بعد الزواج بل يتضاعف في ظل حياة تعيسة مع زوجها تاجر المخدرات، فينتهي بها الحال طريحة الفراش وتموت بعد أن ينهكها المرض تمامًا. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الوثائق الخاصة بالأفلام المفقودة، ترجح أن مرض بهيجة في الفيلم كان بسبب المخدرات التي دخلت دوامتها بخديعة من زوجها.

كادت شخصية بهيجة أن تبدو خاضعة كليًا ومستسلمة لهذه الأيادي التي تتقاذفها وتلقي بها من بؤرة عنف إلى أخرى، لولا إبراز الفيلم للموسيقى والغناء كسبيل للمقاومة. هذه الموسيقى من تأليف بهيجة حافظ متعاونةً مع الموسيقار محمد القصبجي، وقد استخدمت الشريط الموسيقي نفسه في النسختين الصامتة والناطقة. أما الغناء فقد استمع إليه الجمهور في النسخة الناطقة، واستعانت حافظ حينها بالمطربة ليلى مراد لتكون المرة الأولى التي يستمع فيها الجمهور المصري إلى صوت السيدة التي ستصبح واحدة من أهم وأكبر النجمات في تاريخ الطرب والسينما المصرية.

كان الغناء أحد عوامل الجذب التي لجأت إليها بهيجة حافظ في دعايتها للفيلم، إذ تضمنت كل أفيشاته سواء العربية أو الفرنسية توصيف «فيلم ناطق غنائي». وقد جاء فيلم «الضحايا» ملتزمًا بالنسق الذي ساد في أعقاب انطلاق السينما الناطقة في مصر، إذ توزعت الأفلام ما بين أفلام غنائية وأخرى تدخل فيها الأغنية إلى قلب الأحداث سواء لدواعٍ درامية أو من دونها.

نموذج المرأة التي تعيش تحت وطأة القمع ولا تستطيع الخلاص من قيوده، هو الذي تبنته الرائدات في الأفلام التي أخرجنها ومثلنّ فيها، فقد قدمت عزيزة أمير – أول مخرجة في السينما الناطقة بالعربية-  هذا النموذج في الفيلمين الذين أخرجتهما «ليلى- 1927» و«كفري عن خطيئتك -1933»، وقدمته بهيجة حافظ في فيلم «الضحايا-1932»، وإن كانت المرأة في هذه الأفلام تحاول الخروج من شرنقة القهر وتقرير مصيرها، فإن هذه المحاولات تنتهي بالفشل لأنهن الحلقة المستهدفة بالعنف أكثر من غيرها داخل الأسرة والمجتمع، فضلًا عن أن النهايات المأساوية التي تصطدم بها هؤلاء النسوة، يكون المتسبب فيها دائمًا هو الرجل إما بخذلانه أو طمعه أو أنانيته وتجبره.

من الصعب اعتبار هذه النماذج ملهمة، بل إنها أقرب إلى نماذج تستجدي تعاطف المشاهدين. لكنها في الوقت ذاته، تجسد واقع النساء القابعات تحت الظلم الأسري وخلف قضبان النظام الأبوي في تلك الفترة، وبشكل غير معلن فإن نهايات قصصهن التراجيدية تعكس شكلًا من أشكال الاعتراض على استمرار القبول بالظلم ضد النساء واستساغته نمطًا لحيواتهن.

لم يخرج فيلم «الضحايا» عن الدائرة نفسها التي ولد داخلها الفيلمين الذي أخرجتهما عزيزة أمير، ومحيطها هو خيار الحب والزواج القسري. ويبدو ذلك نمطيًا إذا ما نظرنا إليه بمعايير الوقت الحالي، ولكن إذا قرأنا تفصيلات الفيلم في سياقه الزمني، فقد تكون الرسالة المُبطّنة – بخلاف الرسالات الوعظية الطافية على السطح – هي التشديد على القبح الكامن في ممارسات المجتمع بحق المرأة، التي تُلحق بها خسارات معنوية ومادية بسبب قناعات تُطبّع مع قهرها.

من ناحية أخرى، فإن الأفيشات السينمائية والملصقات الدعائية الخاصة بفيلم «الضحايا» في نسختيه، أولت اهتمامًا كبيرًا للتمثيل والقائمين به لا سيما البطلة الرئيسة، ومن بعده الإنتاج بينما غابت الإشارة إلى العناصر الأخرى كالتأليف والإخراج في الملصقات (المتبقية\المنتشرة حتى الآن)، وهذا هو حال السواد الأعظم من أفيشات الأفلام حتى نهاية الثلاثينيات، لا سيما التي أنتجتها الرائدات. تكشف ملصقات الفيلم في نسخته الناطقة حضورًا نسائيًا لافتًا وجذابًا، إذ يظهر اسم بهيجة حافظ بطلةً، وليلى مراد مغنية سيستمع إليها الجمهور، والراقصة حورية محمد (إحدى راقصات كازينو بديعة مصابني) سيشاهد الحاضرون إلى الفيلم رقصها.

إخراج بهيجة حافظ لفيلم «الضحايا» الذي يشكك فيه بعض السينمائيين، تثبته السطوة التي فرضتها على الفيلم في كل النواحي، خاصة أن الإخراج لم يكن قد اكتمل التصوّر حوله كمهنة محددة المهام، ولذلك فإن اختيارها للقصة في البداية، ثم مشاركتها في تطوير النص مع كاتبي السيناريو والحوار بدر أمين وشاهين متولي، بالإضافة إلى قيامها بإنتاج الفيلم الذي منحها هيمنة على بقية التفاصيل، بما فيها اختيار الأماكن والموسيقى التصويرية وتصميم الأزياء الخاصة بها وإبداء الرأي في أزياء بقية الممثلين، كل هذا جعلها قائدة للعمل بمهام أوسع كثيرًا من تلك المنوطة بالمخرج.

التجربة الإخراجية الثانية لبهيجة حافظ هي فيلم «ليلى بنت الصحراء- 1937» الذي أعادت إصداره تحت اسم «ليلى البدوية»، وذلك بعد منعه لأسباب سياسية.

«ليلى بنت الصحراء» هو الفيلم الأهم في مسيرة بهيجة حافظ السينمائية التي تضم سبعة أفلام، شاركت فيها بأدوار مختلفة سواء خلف الكاميرا أو أمامها. وقد عرض الفيلم المنتمي إلى فئة الأفلام التاريخية، لأول مرة في الـ28 من يناير في العام 1937، في داري عرض كوزمو بالقاهرة والإسكندرية.

وعلى عكس فيلم «الضحايا»، فإن الشخصية الرئيسة التي تؤدي دورها بهيجة في «ليلى بنت الصحراء» تُظهر مقاومة أكبر وأكثر صراحة من شخصية بهيجة في الفيلم الأول، إذ أن ليلى رفضت الزواج برجل أراد إرغامها على ذلك مستغلًا سلطته، وقاومته بثبات وجسارة. ومع ذلك، فقد بدا هذا الفيلم أكثر احتفاءً بالذكورة وخصال العرب التي ترسخت في الأذهان عن رجال القبائل العربية لزمن طويل، بشأن الشجاعة والإقدام والسؤدد، وجاءت نهاية الفيلم لتخدم هذا التصور، إذ يأتي العربي لينقذ محبوته من براثن ملك الفرس الذي أسرها ويعود بها منتصرًا، فتصبح مستحقة له وفق ثقافة القبائل العربية، لينتهي الأمر بزواج سعيد، فيه الرجل منعوت بالشجاعة والمرأة موصوفة بالعفة.

الفيلم بنيت قصته على حكاية وثقتها الشاعرة العربية ليلى بنت لكيز بن مرة، والملقبة بـ«ليلى العفيفة» في القرن الخامس الميلادي. وقد ذاع صيت هذه الشاعرة حتى وصل إلى مسامع كسرى الأول ملك الفرس، الذي قرر اختطافها لتصبح جارية من جواريه ثم حاول الزواج بها، ويقينه أنها سترى في ذلك شرفًا وعزة وستتنصل من قبيلتها، إلا أنها رفضت وتمنّعت وأخبرته أنها تحب البراق ابن عمها ولن تتزوج غيره، فثارت ثائرته وأمر بتعذيبها إلى أن تستسلم له، وحينها نظمت قصيدة «ليت للبراق عينًا»، تناشد قبيلتها وعلى رأسهم محبوبها أن ينقذوها. وقد استعانت بهيجة بالمطربة حياة محمد لغناء القصيدة التي ظهرت ليلى تغينها ضمن أحداث الفيلم وحظيت الأغنية حينها بشهرة واسعة، حتى أعادت المطربة أسمهان غنائها في العام 1938، فارتطبت في الأذهان بصوت الأخيرة.

بأداء أقرب للأداء المسرحي قدمت بهيجة فيلمها بالاشتراك مع الممثلين حسين رياض، زكي رستم، عباس فارس. وتميزت الصورة التي رآها الجمهور وقتئنذ بالغنى البصري بالمقارنة مع أفلام تلك الفترة، إذ حاولت بهيجة أن تجسد البيئة البدوية على الشاشة عبر ديكورات وأزياء أقرب لما كانت عليه حياة العرب، وقد كلفها ذلك نحو 18 ألف جنيه ميزانية للفيلم، وهي أضخم تكلفة لفيلم سينمائي في مصر حتى نهاية الثلاثينيات.

وبفضل هذا الفيلم تعد بهيجة حافظ صاحبة التجربة الإخراجية الأكثر نضجًا بين جيل الرائدات الذي يضم إلى جانبها عزيزة أمير وفاطمة رشدي وأمينة محمد. أما على مستوى المعالجة السينمائية، وهو أمر يأتي في صميم عمل المخرج والمخرجة، فالإشكالية في هذا الفيلم هي أن القصة مروية بزاوية ذكورية خالصة، تحتفي بذكور العرب وترى النساء متاعًا، وتحصر المرأة في خانة مأجج الصراع بين ملك وقوم من ناحية وفارس وقبيلة من ناحية أخرى. ليلى في الفيلم اختطفها كسرى لجمالها وليس لحصافتها، ورفضت الزواج منه لحبها للبراق قبل أن يكون إباءً منها واحتجاجًا على اعتداء ملك الفرس على قومها، وهذه المبررات التي لم يهتم الفيلم بإبرازها أشارت إليها كثير من الروايات المنتشرة عن هذه السيدة. وبناءً على المادة التاريخية، فقد كان بالإمكان أن تُعالج القصة على نحو مختلف أو من زاوية تُمجد هذه المرأة أكثر من تمجيد العرب وخصالهم. لكن ما حكته الشاشة للجمهور هو قصة امرأة يتنازع عليها رجلان وسيظفر بها في النهاية أحدهما.

من ناحية أخرى، خرج هذا الفيلم بالسينما المصرية إلى العالمية حيث ذهبت بهيجة حافظ بنسخة منه للمشاركة في مهرجان البندقية السينمائي في إيطاليا في سابقة لم تعرفها الأفلام المصرية قبله، إلا أن أحمد سالم الكاتب والسينمائي، كتب قبل ساعات من عرض الفيلم بالمهرجان، ينتقد ما يستعيده من خلاف بين العرب والفرس وتشويهه لصورة الملك كسرى الأول، مستغلًا حساسية الوضع بعد أن تزوجت الأميرة فوزية (شقيقة الملك فاروق) من شاه إيران؛ فأعلنت وزارة الخارجية وقف عرض الفيلم في الداخل والخارج، كنوع من المجاملة للشاه.

أصرّت بهيجة على إعادة فيلمها إلى العرض، فلجأت إلى القضاء إلا أنه ظل ممنوعًا لنحو ست سنوات، حتى صدر قرار يسمح بإعادته إلى دور السينما بشرطين وهما: تغيير اسم الفيلم فأضحى «ليلى البدوية»، وتغيير أسماء الشخصيات الفارسية وأولها شخصية الملك فأصبح كنجا بدلًا عن كسرى.

تكبدت بهيجة خسائر فادحة بسبب هذه الأزمة، وتعطلّت مسيرتها السينمائية ودُمِّر حلمها الإنتاجي، إذ لم تستطع الإبقاء على شركة الإنتاج التي أسستها تحت اسم «الفنار» وحوّلتها إلى شركة توزيع سينمائي، ثم أعلنت إفلاسها وانصرفت نهائيًا عن الإنتاج ولم تعد إلى الإخراج مرة أخرى، لأن السينما المصرية في الأربعينيات كانت بدأت تنصاع إلى الهيمنة الذكورية، وشرعت في التخلص من سطوة النساء على الصناعة ليقتصر حضورهن على التمثيل بشكل أساسي وبعض الأدوار – غير الرئيسة- خلف الكاميرا.

*ترقبوا الحلقة الثالثة من قراءة «ولها وجوه أخرى» في مناهج المخرجات المصريات ومعالجاتهن للشخصيات النسائية والقضايا النسوية