تونس، الجمهورية التونسية – «حرية الجسد ليست مرتبطة بتغطيته أو كشفه. في حياتي اليومية، لا أحُبّذ كثيرًا ارتداء لباس كاشف، بينما لا أجد في الأمر مشكلة إن كنت على المسرح، لأنني على خشبته أتجاوز الجسد البسيط لأذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث أحول جسدي إلى لغة تُخاطب وتؤثر في الجمهور.»

هكذا تحدثت الفنانة الكوريغرافية ثريا بوغانمي، عن إشكالية حرية الجسد والتعبير الجسدي عبر الرقص في العالم العربي، خاصة لو كانت المرأة هي صاحبة الجسد. وقد جاءت كلماتها ضمن حوار مطوّل أجرته معها «ولها وجوه أخرى» في تونس العاصمة، على هامش مشاركتها بعرض «شقائق النعمان» في الدورة الثانية لـ «أيام قرطاج الكوريغرافية»، الذي أقيم في الفترة (14-20) يونيو الماضي.

ويعد «أيام قرطاج الكوريغرافية» تظاهرة فنية تهدف إلى الاحتفاء بالكوريغرافيا، وهو فن من فنون الأداء الحركي، ينطلق من خلاله الجسد في الفضاء المسرحي ليطرح أفكارًا ويثير مشاعر، من شأنها أن تدفع المتلقي إلى التأمل وإعادة النظر في قضايا بعينها أو في الحياة عمومًا. وقد جاءت هذه الدورة تحت شعار «لا رقص دون كرامة جسدية»، وبمشاركة 250 فنانًا وفنانة من جنسيات مختلفة.

ثريا بوغانمي ممثلة ومخرجة وكوريغرافية تونسية، وأستاذة بالمعهد العالي للموسيقى والمسرح بالكاف في تونس، التحقت بالمركز المتوسطي للرقص المعاصر، وشاركت كراقصة في عدد من العروض، منها: «حالة»، «ضيق نفس»، «صالة»، «أفالونج». كما أخرجت مجموعة من العروض، مثل: «أصوات»، و«توحشّت» وهو مستوحى من رواية «مريم تسقط من يد الله» للكاتبة التونسية فتحية الهاشمي، وأخيرًا «شقائق النعمان».  وتركز بوغانمي في عروضها على النبش في عوالم النساء والتعبير عن معاناتهن تحت وطأة المجتمعات الأبوية، وإبراز جل ما يعتمل داخلهن من أفكار ومشاعر وهموم.

في الحوار:

الجمهور التونسي لم يعد يرى الراقصات على المسرح أجسادًا تثير الشهوات

لا أؤمن من بعد الله بأن هناك من هو أقوى من المرأة

الرقص الشرقي أشبه بـ«وحي» من الله

المكتسبات التي حصلت على التونسيات لم تأتِ على طبق من ذهب

في وصفك لــ«شقائق النعمان»، قلتِ عنه: أربع نساء يحملن لون الدم كمرايا للحروب الدنيئة.. حدثينا عن الفكرة التي انطلقتِ منها؟

استلهمت فكرة العرض من الأحداث التي شهدتها تونس عقب ثورة 17 ديسمبر\ 14 يناير. لقد فقدنا كثيرًا من الشهداء، ومنهم هؤلاء الذين قرروا الهجرة فماتوا في عرض البحر، وهذا دفعني إلى استحضار من تركوا البلاد وتركوا في نفوسنا جرحًا غائرًا لا يمكن مداواته. لم تفارق ذهني تجمُّعات النساء اللاتي حملنّ صور أبنائهن أمام الوزارات، للمطالبة باستعادة حقوقهم وبوضع حلول تمنع الشباب من الهجرة والموت في البحر. ومن هذا المنطلق، سعيت إلى تحقيق التوازن بين حضور المرأة على الرُكح (المسرح)، وتجسيد معاناتها في غياب هذا الرجل من دون أن أحدد صفته، ليكون الزوج أو الأخ أو الابن أو الأب.

وما السبب وراء اختيارك لاسم «شقائق النعمان»؟

لأن الشخصيات النسائية تشبه زهور «شقائق النعمان»، وشقيقة النعمان هي زهرة برية تنبُت في الربيع، وكلما أزهرت وفاجئتنا حملت إلينا البهجة والمرح، ومن ثم قررت خلق مقاربة بين هذه الزهور ورمزيتها في تاريخنا، إذ يسود اعتقاد بأنها تنبُت من دم الشهيد، وبين النساء في هذا العرض.

«شقائق النعمان» يتناول معاناة المرأة العربية بعد الفقد، وقد اعتمدت في البناء الدرامي للحركة على علاقة المرأة بالطبيعة، وكيف تُوّظف جسدها، وكيف يعاني هذا الجسد، وكيف يدخل الجسد في علاقة ممتدة مع العذاب والألم.

بالإضافة إلى ذلك، عمدت إلى أن يكون العرض تحيةً إلى المرأة الريفية التونسية، خاصة بعد أن قضت عاملات زراعيات في حادث مؤلم قبل عدة شهور، ولذلك وضعت الراقصات حول أعناقهن «غطاء رأس الفلاحات المميز» كتحية لهن ولأرواحهن.

في إبريل الماضي، لقيت سبع عاملات زراعيات مصرعهن، أثناء نقلهن إلى مواقع العمل في الحقول والمزارع بولاية سيدي بوزيد التونسية، إثر اصطدام شاحنة نقل بضائع بسيارة خاصة لنقل العمال. الحادثة فجّرت غضب كثير من التونسيين، الذين عبروا عن رفضهم واحتجاجهم على الظروف غير الآدمية التي تعاني منها العاملات في الحقول الزراعية، سواء على صعيد الأجر المتدني أو في عملية نقلهن إلى مواقع العمل عبر شاحنات صغيرة ومكدّسة.

وبالتالي، فما يمكننا استخلاصه هو أن «شقائق النعمان» يجسد معاناة العربية وخساراتها جراء الحروب أو الثورات.. أليس كذلك؟

بالتأكيد.. وعلى سبيل المثال، جاء تصميم المشهد الأخير في العرض مستوحى من حركة النساء السوريات، بعد أن شاهدت عددًا من المقاطع والصور التي توثق مغادرتهن لبلدهن في ظروف شديدة القسوة. وفي النهاية، تركت النبتة الخضراء وجزء منها ميت، للإشارة إلى أن الأمل يمكن أن يعود مجددًا أو قد تموت النبتة تمامًا مثل أي شيء ينتهي أمره إذا لم يعد يكترث له أحد.

إلى جانب الأمل، ما الرسالة التي يؤكد عليها «شقائق النعمان» عن النساء في العالم العربي؟

دعيني أخبرك بشيء من الكواليس. لاحظت أثناء البروفات إحدى المؤديات تجلس متكئة، فوجهتها – لا إراديًا- بضرورة أن تبدو قوية وشامخة لأنها تجسد صورة المرأة الأبية رغم المعاناة. وأعتقد أن المؤديات نجحن حقًا في التعبير عن النساء اللواتي يعانين ألم الفقد والفراق، وفي الوقت نفسه ظهرن كنساء قويات على المسرح.

«شقائق النعمان»: عرض من إنتاج العام 2019، الكوريغرافيا والإخراج لثريا بوغانمي، الموسيقى لهيفاء بوزيان، السينوغرافيا لمنى الفرجاني، الملابس لهاجر بوزياني، الأداء لكل من: رحمة الفالح وآمال العويني وخلود بديدة وثريا بوغانمي.

وعن الفن الذي قدمتِ من خلاله هذه الفكرة، كيف ترين الوضع القائم فيما يخص نظرة المجتمع العربي للرقص وامتهان النساء له؟

أظن أن نظرة العالم العربي للرقص تغيرّت إلى حدٍ كبير وأصبح للرقص المعاصر جمهوره. ولم تعد التحديات أمام التونسيات الراغبات في احتراف الرقص كما كانت في الماضي، ربما هناك صعوبات في بعض الولايات الأخرى (خارج العاصمة). وهذه النظرة المحافظة تعود إلى أن فكرتنا الأولى عن الرقص، التي تراه مجرد عرض ترفيهي يُقام في الصالات، ولكن عندما يتحول الرقص إلى خطاب جسدى للتوعية والتثقيف على المسرح، فهذه مهنة شاقة جدًا وليست للترفيه بل هي للتغيير. وأعتقد أن الرقص الأقرب للتعبير عن حقيقة الإنسان. وكممثلة شاركت في عدة أدوار مسرحية، فقد ذهبت بكامل رغبتي إلى الرقص لأنني وجدت الحركة أقرب كثيرًا إلى الجسد، ونبضات القلب لا تفقد شيئًا عندما نؤديها بل تخرج كما هي من الجسد، صادقة إلى أبعد الحدود.

وكيف تردين على الآراء القائلة بأن الرقص الشرقي ليس فنًا وإنما مجرد وسيلة للترفيه؟

لا يمكن أن نقول أن الرقص الشرقي ليس فنًا، أنا اعتبره أشبه بـ«وحي» من الله، ولكن هناك من يرفضه بذريعة الإغراء والإيحاءات. على الجانب الآخر، فإن الرقص المعاصر هدفه الأساسي هو مخاطبة العقول وتوجيه الرسائل والتأثير في المتلقي.

ولكن ألا ترين أن التعبير الجسدي على المسرح ما زال يواجه قيودًا في المجتمعات المحافظة، خاصة عندما تكون المرأة هي صاحبة الجسد؟

حرية الجسد ليست مرتبطة بتغطيته أو كشفه. في حياتي اليومية، لا أحُبّذ كثيرًا ارتداء لِباس كاشف، بينما لا أجد في الأمر مشكلة إن كنت على المسرح، لأنني على خشبته أتجاوز الجسد البسيط لأذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث أحول جسدي إلى لغة تُخاطب وتؤثر في الجمهور، بما يجعل المتلقي نفسه لا يراه مجرد جسد عارٍ.

كفنانون نتحرر في أدائنا على المسرح من أشياء كثيرة دنيوية لنرتقي إلى مستوى العقل، والذهن والروح. وفي النهاية، الأمر يختلف حسب العقلية، والجمهور التونسي بدأ يتجاوز إلى حد ما هذه النظرة، ولم يعد يرى الراقصات على المسرح أجسادًا تثير الشهوات.

وبشكل شخصي، كيف تعاملت أسرتك مع اختيارك للعمل بالفن وتحديدًا الرقص؟

كان المشوار صعبًا للغاية، ولا أعلم من أين جاءتني هذه القوة حتى أدافع وأتمسك بحبي للرقص وإيماني الشديد به. لقد تخوّفت أسرتي من طبيعة المجال وصعوبته خاصة لامرأة في المجتمع العربي، فهم يرون المرأة مُستَحِقّة للعناية والحماية، وهذا لا يوفره العمل في المسرح والرقص، خاصة في ظل ظروف السفر والتنقل منفردةً، فضلًا عن مخاوفهم من غياب الاستقرار المادي، فالرقص لا يعد حتى الآن مهنة ولا يحقق عائدًا ثابتًا.

لكن مع مرور الوقت، تغيّرت نظرة أسرتي للأمر برمته، وصاروا داعمين لعملي، ويأتون لحضور العروض تشجيعًا لي.

المرأة هي المحور الرئيس في أغلب أعمالك.. إذن، هل يروق لك تصنيفك كمخرجة وكوريغرافية نِسوية؟

لا أفضل تصنيفي ككوريغرافية نِسوية، إلا أنني كامرأة تتأمل هذا العالم طوال الوقت، لا أجد ولا أؤمن من بعد الله بأن هناك من هو أقوى من المرأة. وبصراحة شديدة، رغم أني امرأة فأنا لا أفهم المرأة؛ لا أفهم هذه الثورة، السحر، الصبر، التمسك بالحياة، الحياة التي تعطيها لمن حولها. هذه التركيبة من الصعب جدًا إدراكها، ورغبتي في الفهم تدفعني إلى طرح أفكار وقضايا عن المرأة. لقد عرفت نساء قويات منذ طفولتي وأولهن أمي وأخوتي، وتشكل لدي قناعة أن كل النساء «لغز» لا يمكن تفسيره.

إلى أي مدى يُساهم الرقص المعاصر في تبني القضايا المسكوت عنها لا سيما التي تخص النساء؟

بالفعل يساهم في ذلك إلى حدٍ كبير، ويساعد على إيصال الفكرة بسهولة. وهذا ما حدث مع عرض «توحشّت» المأخوذ عن رواية «مريم تسقط من يد الله»، للكاتبة التونسية فتحية الهاشمي، فقد تناولت في هذا العمل قضية العاملات بالجنس التجاري، وكانت الكاتبة تنتصر للعقل في هذا العمل، وترى أن كلنا كنساء ولدنا مثل السيدة مريم، ولكن المجتمع الذكوري هو من يشوّه المرأة.

لقد تلقيت بعد العرض الكثير من الرسائل الداعمة، لأن رسالته فهمها الحاضرون من دون أن نقول كلمة واحدة تتعلق بـ«العرض»، فقد عبرت عن الكبت الذي تعانيه المرأة العربية وتحديدًا كبت الجسد، والضغط الذي تواجهه سواء كان جنسيًا أو نفسيًا أو اجتماعيًا.

هل يمكننا ولو بشكل تقريبي تحديد نسبة النساء مقارنة بالرجال العاملين في الكوريغرافيا في تونس؟

أعداد الكوريغرافيات أكثر من الكوريغرافيين الرجال، ولا يمكن أن ننسى أسماء عدد من الراقصات والمصممات مهّدن الطريق لنسير عليه الآن مثل: نوال الإسكندراني، إيمان سماوى، ملاك السبعي. هؤلاء النساء فتحن لنا المجال، وكان ذلك انتصارًا كبيرًا للمرأة في المجال الفني بصفة عامة.

النساء قويات في ميادين مختلفة.. لكن يظل المجتمع الذكوري يراهن أضعف من الرجال وتوابع لهم.. لماذا تستمر هذه النظرة إلى الآن؟

 المرأة لا تحتاج إلى رجل يساعدها، ما أشاهده من نماذج في حياتي اليومية، أثناء ذهابي إلى العمل أو عودتي إلى المنزل هي لنساء يساعدن الرجال وليس العكس. المرأة تعمل في المنزل وخارجه وتربي الأطفال وتساند زوجها. في حياتي، لم أرَ يومًا رجًلا ساعد امرأة، بل إنه يزيد معانتها وشقاءها. يجب أن تتغير العقلية الذكورية العربية وتُدقق النظر في المجهودات التي تقوم بها المرأة يوميًا.

في هذا السياق أيضًا، أود أن أسألك عن الانتخابات الرئاسية التونسية التي تشهد إعلان عدد من السيدات نية الترشح.. في رأيك، هل يمكن أن تفعلها تونس وتكون أول دولة عربية ترأسها امرأة؟

أعتقد وأتمنى ذلك وستكون خطوة تاريخية. الطاقة التي أشاهدها في النساء التونسيات، تجعلني أصدق أنه لو أضحت المرأة رئيسة للبلاد ستصبح تونس بلدًا مختلفًا. لا أجد أذكى من قلب وعقل المرأة في التفكير، والتخطيط، والنجاح، والإصرار.

أعتقد أن المرأة هي الشخص الوحيد الذي لا يعمل لنفسه وإنما للآخر، سواء كان الآخر هو الأبناء أو الأخوة أو الزوج أو العائلة. ولا أظن أن رجلًا يقدم التضحيات التي تقدمها المرأة.

تقام الانتخابات الرئاسية التونسية في شهر نوفمبر المقبل، وهي الانتخابات الرئاسية الثانية بعد الثورة. وقد أعلن عدد من النساء التونسيات عزمهن الترشح لمنصب الرئيس، أبرزهن ليلى الهمامي، وآمنة القروي، وانطلقت حملات تطالب عبير موسى رئيسة الحزب الدستوري الحر بالترشح.

تونس هي صاحبة لقب عاصمة المرأة العربية للعامين 2018 و2019 ..إلى أي مدى يتفق ذلك مع الصورة على أرض الواقع؟

أنا أحب نساء بلادي لأنهن من طراز خاص، والمكتسبات التي حصلت عليها المرأة التونسية لم تأتِ على طبق من ذهب، بل كافحت وناضلت من أجلها، وما زالت التونسيات يقاومن لانتزاع مزيد من حقوقهن بجهد وعمل لا ينقطعان.

وعلى سبيل المثال، فإن الفنانات في بلاد عربية أخرى يمكنهن اكتساب الشهرة بصورة أسرع، بينما الفنانة في تونس تبذل مجهودًا مضاعفًا.