«في الـ22 من يناير في العام 1973، قضت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية بعدم دستورية القوانين التي تحرم النساء من الإجهاض الآمن، مقرّةً بأن الإجهاض يندرج تحت الحق في الخصوصية الذي يكفله التعديل الدستوري الرابع.»

وراء الحكم التاريخي قضيتان، أكثرهما شهرة عُرِفت باسم «رو ضد ويد- Roe V. Wade» بدأت في العام 1969، عندما حرّكت امرأة تدعى نورما نيلسون مكورفي في ولاية تكساس دعوى قضائية احتجاجًا على قانون الولاية الذي يحظر الإجهاض إلا في حالات إنقاذ النساء من الموت، وكان هنري ويد النائب العام لولاية تكساس هو المدافع عن القانون المجرّم لعمليات الإجهاض. أما القضية الثانية عُرِفَت باسم «دو ضد بولتون – Doe V. Bolton»، واختصمت فيها شابة تدعى ساندرا كانو النائب العام لولاية جورجيا آرثر ك. بولتون، بسبب قانون الولاية الذي يمنع الإجهاض إلا في حالات الاغتصاب وتشوّه الجنين الوخيم واحتمال تعرض حياة الأم للخطر.

اختارت ساندرا كانو اسمًا مستعارًا لإخفاء هويتها وهو «ماري دو – Mary Doe»، وقدمت نورما مكورفي نفسها إلى الصحافة باسم «جين رو – Jane Roe»، وأضحى كلاهما آنئذ رمزًا للنساء اللواتي يرغبن في الإجهاض ولا يستطعن الحصول على هذا الحق بشكل قانوني وآمن.

قبل القضيتين، شهدت الولايات المتحدة حِراكًا بدأ في الستينيات للضغط من أجل تقنين الإجهاض، وعندما أقرّت المحكمة العليا بدستورية الحق في الإجهاض في العام 1973، بدأت معركة أخرى عمدت خلالها النساء إلى تثبيت قواعد القبول المجتمعي للحق المُقر قانونيًا، ورغم نجاح المؤيدين لحق الاختيار في إشاعة الاعتراف به مجتمعيًا، فإن مساعي المحافظين والمتشددين إلى إلغاء قرار المحكمة العليا لا تتوقف.

بموجب قرار المحكمة العليا التاريخي والصادر في العام 1973، أصبح بإمكان الأطباء في الولايات المتحدة إجراء عمليات الإجهاض من دون أن يؤدّي ذلك إلى توقيع عقوبة عليهم، بشرط عدم إجراء العمليات بعد الأسبوع الـ24 من الحمل إلا في حالات الخطر على حياة الأم، كما بات من حق المرأة أن تجهض حملها غير مضطرة إلى تقديم مبررات لإجراء العملية.

باتريشيا ماجينيس.. امرأة قادت أول حملة «ضغط» لإباحة الإجهاض قانونيًا

في العام 1821، أقرت ولاية كونيتيكت أول قانون يقيد الإجهاض في الولايات المتحدة الأمريكية، وسرعان ما لحقت بها ولايات الأخرى. وفي العام التالي حققت جماعة «نيويورك للقضاء على الرذيلة» مرادها، عندما أقرت البلاد قانونًا فيدراليًا يحظر توزيع وتداول المواد الخاصة بمنع الحمل والإجهاض.

استمر الوضع على هذا النحو حتى خمسينيات القرن الماضي، عندما تحوّل المنع الكلي إلى إباحة في حالة واحدة فقط وهي «أن يُعرّض الحمل حياة المرأة للخطر»، وفي نهاية تلك الحقبة شهدت الولايات المتحدة عودة النقاش بشأن تعديل قوانين الإجهاض، وهو ما يعتبره مؤيدو حق الإجهاض مكتسبًا من مكتسبات المؤتمر الطبي الذي أقيم في العام 1955 تحت عنوان «الإجهاض في الولايات المتحدة».

تجريم الإجهاض لم يمنع الأمريكيات من القيام به إذا رغبن في ذلك، والحقيقة التي لم يتمكن أحد من إنكارها أو إخفائها هي أن عشرات الآلاف من النساء فيما بين 1821 و1973 تعرضن للأذى الجسدي الذي بلغ في بعض الحالات حد الموت، نتيجة الإجهاض غير القانوني وغير الآمن.

في العام 1961، جمعت باتريشيا ماجينيس، وهي طبيبة تعيش في مدينة سان فرانسيسكو، توقيعات لدعم إجراء إصلاحات على قانون الإجهاض القائم في ولاية كاليفورنيا، وحسب مؤرخين فإن ذلك النشاط يعد أول حملة فعلية تدفع باتجاه تعديل القوانين المُقيّدة للإجهاض.

أدركت ماجينيس لاحقًا أن الإصلاح وحده لن يفيد جميع النساء، وأن تعديل قوانين هي بالأساس مقيدة للإجهاض لن يسهم في الوصول إلى تشريعات تدعم الحق في الإجهاض بمنظور ليبرالي، فأسست منظمة «المجتمع من أجل الإجهاض الإنساني» في العام 1962، وقادت من خلالها حملة ضغط لإقرار الحق في الاختيار قانونيًا، ونادت بالتعامل مع الإجهاض كأي عملية جراحية أخرى، أي أنها شأن خاص بين المريضة وطبيبها.

إلى جانب الضغط النسوي الرامي إلى تغيير القوانين، كان هناك من يتحدى الحظر على أرض الواقع عبر تقديم الدعم للنساء الراغبات في الإجهاض، مثل مجموعة «جين» التي دشنتها مجموعة من الشابات في ولاية شكاغو بشكل سري، وقدمن من خلالها المساعدة عبر توفير وسائل إجهاض آمنة وبآسعار مقبولة.

فيما بين العامين 1967 و 1973، قامت ثلث الولايات الأمريكية إما بإلغاء قوانين تجريم الإجهاض وإما بإجراء تعديلات عليها تبيح الإجهاض في حالات محددة. ومن هذه الولايات: كولورادو، نيويورك، آلاسكا، واشنطن. ومع ذلك، لم يُتح الإجهاض للأمريكيات في جميع الولايات سوى في العام 1973، بعد إقرار المحكمة العليا بتعارض تجريم الإجهاض مع الحق في الخصوصية.

تعديل هايد: صراع ممتد بين الجمهوريين والدميقراطيين

في العام 1976، مرر الكونغرس لأول مرة ما عُرِف بـ «تعديل هايد»  الذي يمنع تعيين نسبة من المخصصات المالية الحكومية للتأمين الصحي، من أجل تغطية عمليات الإجهاض، وقد صار التعديل منذ ذلك الحين بندًا يعتمده الكونغرس سنويًا.

بعد عام واحد، أدخل تعديل على النص ليسمح بتغطية تكاليف عمليات الإجهاض، إذا كان الحمل قد نتج عن اغتصاب أو إذا كان الحمل مسببًا لأضرار صحية.

لما يزيد عن أربعين عامًا، أيد الحزب الجمهوري «تعديل هايد» بقوة، كما عبر أعضاؤه عن رفضهم لأي شكل من أشكال التمويل الفيدرالي لمنظمات مثل منظمة تنظيم الأسرة التي توفر خدمات الإجهاض للنساء. في المقابل، يؤيد الحزب الديمقراطي إدراج الإجهاض الآمن ضمن برامج الرعاية الصحية.

التباين في الموقفين من «تعديل هايد» تعود جذوره إلى المواقف التاريخية من الإجهاض ومنع الحمل، إذ يعارض الجمهوريون حق النساء في الإجهاض بينما يؤيد الديمقراطيون حق النساء المطلق في اختيار الاستمرار في الحمل أو إنهائه. كما يرفض الجمهوريون وجود العيادات المدرسية التي توّفر للطالبات وسائل منع الحمل، بينما يلعب الديمقراطيون دورًا مهمًا في توفير وسائل منع الحمل الطارئ دون وصفة طبية لجميع النساء.

اليمين المتشدد يريد من ترامب «الوفاء بالوعد»

بعد توليه مقاليد الحكم في الــ20 من يناير في العام 2017، وقع دونالد ترامب – بعد 48 ساعة من تسلمه مهام الرئيس –  أمرًا تنفيذيًا يقضي بوقف المساعدات عن أي مؤسسة أو مجموعة تدعم الإجهاض خارج الولايات المتحدة الأمريكية، أو تساعد من خلال نشاطها وخدماتها الصحية على القيام به، أو حتى تروج له. وقد جاءت هذه الخطوة التزامًا من ترامب بأحد أبرز وعوده الانتخابية، إذ تعهد إبان حملته بالتضييق على إباحة الإجهاض والدفع باتجاه تغيير التشريعات القائمة في هذا الصدد.

لم يكن الأمر التنفيذي الذي وقعه ترامب استحداثًا وإنما سبق ووقعه الرئيس الجمهوري رونالد ريغان ثم عاد وألغاه الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون بعد وصوله إلى الحكم، ثم وقع القرار نفسه الرئيس الجمهوري جورج دابليو بوش، ليعود الرئيس الديقراطي باراك أوباما ويلغيه بعد انتخابه في العام 2009، ويؤكد هذا التسلسل عمق الصراع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي فيما يتعلق بالحق في الإجهاض.

منذ العام 1973 وحتى العام 2018، لم يكف المناهضون للإجهاض عن عرقلة الحصول على هذا الحق رغم إقراره قانونيًا، ونجحوا في ذلك بشكل جزئي من خلال خلق حواجز مالية ولوجستية، ومن بينها: تمديد العمل بــ«تعديل هايد»، وتقليل العيادات التي تُقدّم خدمات الإجهاض في عديد من الولايات مثل ولاية ألاباما التي لا يتوفر في 93 في المئة من مقاطعاتها عيادات لخدمات الإجهاض، وذلك استنادًا إلى أرقام صادرة عن مركز غوتماخر البحثي والمعني بالحقوق الصحية والإنجابية في الولايات المتحدة.

نجح ترامب في ترجيح كفة القضاة المحافظين في المحكمة العليا، فقد عيّن في العام 2017 القاضي نيل غورساتش الذي عبّر عن تحفظه بشأن إباحة الإجهاض، كما نجح الرئيس الأمريكي وحلفاؤه من الجمهوريين في مجلس الشيوخ في العبور بالقاضي المحافظ بريت كافانو إلى المحكمة العليا في العام 2018، ليحل محل القاضي المتنحي أنطوني كينيدي الذي عُرِف بتصديه للأحكام المتشددة في القضايا الاجتماعية ومن بينها الإجهاض وزواج المثليين. وتجدر الإشارة إلى أن مجلس الشيوخ صوّت بأغلبية لصالح تعيين كافانو في المحكمة العليا، رغم اتهامه بالتحرش والاعتداء الجنسي، من قبل أربعة نساء تقدمتهن أستاذة جامعية تدعى كريستين بلازي فورد.

استطاع دونالد ترامب والجمهوريون أن يرجحوا كفة المحافظين في المحكمة العليا، وهو ما يثير مخاوف بشأن احتمالية العدول عن القرار الذي اتخذته المحكمة قبل 46 عامًا، ويضاعف هذه المخاوف قوانين حظر الإجهاض التي تقرها بالتتابع عدد من الولايات الأمريكية خلال الشهور الأخيرة.

خضع حق النساء في الاختيار إلى تسييس على مدار عقود من جانب الحزبيين الرئيسين في الولايات المتحدة، واستخدم السياسيون قضية الإجهاض كورقة من أوراق التفاوض واستجلاب الأصوات الانتخابية.

الارتداد إلى الخلف: القوانين المناهضة للإجهاض تجتاح الولايات المتحدة

في شهر مايو الماضي، أقرت ولاية ألاباما قانونًا يحظر الإجهاض حتى في حالات الاغتصاب بما فيها اغتصاب المحارم، ومن المزمع أن يبدأ العمل به في نوفمبر المقبل، وأصدرت السلطة التشريعية في ولاية ميزوري  قرارًا يعتبر عمليات الإجهاض غير قانونية إذا أجريت بعد ثمانية أسابيع من الحمل، وسيدخل حيز التنفيذ في أغسطس المقبل. وفي الشهر نفسه مررت ولاية لويزيانا قانونًا يجرم الإجهاض اعتبارًا من الأسبوع السادس من الحمل.

شهدت ولايات أخرى تمرير قوانين مماثلة منذ بداية العام الجاري وهي: جورجيا وأوهايو وميسيسبي وكنتاكي. وفي العام 2018، أقرت ولاية أيوا قانونًا يحظر الإجهاض عندما يصبح رصد نبضات قلب الجنين ممكنًا (عادةً في الأسبوع السادس من الحمل)، إلا أن قاضي الولاية أوقف القرار.

ولا تزال حملة تقييد الإجهاض قانونيًا مستمرة، إذ أنه من المحتمل أن تنضم 16 ولاية أخرى للقائمة قبل نهاية العام الجاري، ومنها: فلوريدا، ماريلاند، مينيسوتا، فيرجينيا الغربية.

تكشف أرقام صادرة عن مركز بيو للأبحاث (مقره واشنطن) أن المناهضين للإجهاض ما برحوا أصحاب قاعدة شعبية عريضة في الولايات المتحدة، وحسب استطلاع أجراه المركز في ديسمبر من العام2017، فإن 48 في المئة من الأمريكيين يعتقدون أن الإجهاض غير أخلاقي، بينما يرى 20 في المئة أنه مقبول أخلاقيًا، ويوقن 31 في المئة من الأمريكيين بأن الإجهاض ليس قضية أخلاقية.

مخاوف من إلغاء المحكمة العليا «قانون الإجهاض»

تتعارض سلسلة القوانين التي صدرت منذ بداية العام الجاري مع قرار المحكمة العليا الصادر في العام 1973 بتشريع الإجهاض، وهو ما يرفع احتمالية إلغائها من قبل المحاكم الابتدائية، إلا أن المناهضين للإجهاض يرون في الفترة الراهنة فرصة ذهبية لتحقيق غايتهم المعطّلة منذ 46 عامًا، ولذلك يتطلعون إلى عرض القوانين للاستئناف في المحكمة العليا التي بات يسيطر عليها المحافظون، على أمل أن تقرر المحكمة العدول عن قرارها بتشريع الإجهاض في العام 1973.

تعتبر المحكمة العليا في الولايات المتحدة أقوى مؤسسة قضائية، لأنها تضم تسعة قضاة يعينون مدى الحياة، وتُفرَض قراراتهم على الرئيس الأمريكي والكونغرس وجميع الولايات الأمريكية.

ترتفع وتيرة القلق بشأن مستقبل إباحة الإجهاض قانونيًا في الولايات المتحدة في ضوء قوانين التقييد التي تصدر واحدًا تلو الآخر في الولايات الأمريكية خاصة المحافظة منها. في المقابل، تتصاعد مقاومة الحركة النسوية التي تأبى الاستسلام للأمر الواقع الذي يقترب بالمتشددين من تحقيق أهدافهم، وترفع النساء أصواتهن في وقفات احتجاجية وتظاهرات يؤكدن فيها على رفضهن القاطع لمحاولات المجتمع المحافظ إملاء شروطه عليهن وبسط سيطرته على أجسادهن.